منذ قديم الأزمان والأنسان الذي اكتشف ذاته ، يبحث عن حل لمشكلة الآخر المجاورفي صراع مرير دفعه كي يكتشف حلولا سلمية للمحافظة على مصالحه ، فاكتشف الاسرة والعائلة والقبيلة ومن ثم القرية والمدينة والمملكة ، ولكن مشكلة الجار ظلت على ما هي عليه ، فاستبدال الصراع الفردي من أجل البقاء بالصراع بين الأسر أو بين العائلات أو بين القبائل أو بين الممالك لم يغيرشيئا من مرارة الصراع ، وأصبح للدفاع قيمة أخلاقية ، وكذا للغزو ، والاجتياح والاحتلال ومن ثم الانتداب وحتى غزو الفضاء .

والتجاور ليس مشكلة بحد ذاته ، فالانسان في رحلة الحياة البشرية على الكرة الارضية موجود الى جانب الانسان بحكم الواقع ،ولكن المشكلة هي في معرفة الانسان لوجود الجيران حوله وصدمة هذه المعرفة عليه ، ما يدفع به للتساؤل حول مصالحه ، كيف يحميها ؟، او كيف يستزيد منها؟ ان لم يكن من أجل الزيادة في الرفاهية ،فلكي يعطي الجار درسا للمستقبل ، أي انه موجود وقادر ، لتتحول المصالح الى هيئة أجتماعية ذات سلطة قيمية وأخلاقية تفيد بالاعتداء كما تفيد في رد هذا الاعتداء ، ولكن الانسان واصل اجتهاده للوصول الى ارقى حل ممكن لهذه المعضلة ، ولكن صدمة التجاور لما تزل تفعل فعلها في التقوقع الدفاعي للانسان او في الانفلاش الهجومي الاعتدائي ، وفي الحالين هناك عنف ، وفي الحالين هناك تصور للمصلحة على انها واجب نبيل يجب ان يتحقق في سبيل الاسرة أو العائلة أو القبيلة أو الملك او الايديولوجيا أو الوطن على حساب أو لحساب الجيران .

اذا كانت المسافة بين القبائل والممالك تقاس بأيام السفر ، فاليوم اصبحت هذه المسافة تقاس بالساعات والثواني ، واذا كانت صدمة معرفة وجود الجيران في الماضي تأخذ اشكالا اخلاقية مثل الغزو والاشهر الحرم وتقاليد الضيافة ، فأنها اليوم تأخذ اشكالا أكثر تعقيدا مثل الهجرة ، والتجارة ، والاعلان ، والشركات العابرة للجنسيات ، والتخاطب الانترنيتي ، والاجتياح العسكري بأرقى ما وصلت اليه البشرية من علم ، وكأن البشرية لم تستفق من صدمة التجاور الأولى حيث عادت الى انتاج دورة العنف بأبشع اشكالها .

واليوم ونحن في المدينة الحديثة ضمن هذه القرية الكونية ، نمارس هذه الصدمة بشكل دوائر متوسعة ومتراكبة انطلاقا من الجار الواقعي ، وانتهاء بالجار البعيد الذي لم تعد تفصلنا عنه هذه القارات والمحيطات التي لم تكن تسمح لخوفنا على ( مصالحنا ) بالانطلاق نحوه بالعنف . العنف المستتر بالعقل والابتسامات الخلابة ، لنكتشف أننا نمارس العنف ضد انفسنا في آخر المطاف .

فقيادتنا للسيارة تكتنز العنف من باب التهديد ، (اما أن تفسح لي الطريق وأما سوف أتسبب بحادث ) لنزهو بأنفسنا أننا كسبنا المعركة !، دفعنا للرشوة البسيطة والكبيرة ، الواسطة المحسوبية رمي الزبالة في الشارع كلها اشكال من العنف المتبادل مع الجار( ألآخر ) القريب .

أما في الدائرة الأوسع فنبدو متوترين لأي علاقة مع الآخر المختلف ،يزعجنا ويثير غضبنا وقرفنا اختلافه ، تارة بأسم الدكتاتورية وأسلحة الدمار الشامل، وتارة ،وفي اتجاه معاكس بأسم الفضيلة والمقدسات والقيم الأخلاقية ، وفي الاتجاهين نرى التبرير للعنف يأخذ وجها حضاريا مزيفا و ضروريا كي نحمل الآخر مسؤولية بدء العنف ، وكأن ذنب بداية العنف يعفينا من فهم ألآخر كآخر وليس بالقياس على انفسنا ومصالحنا .

كلنا في هذه القرية الكونية نعتبر أن الآخر قادم الينا كي يسلب منا قيمنا وثرواتنا ، وكلنا في هذه القرية الكونية نعتبر أن ما لدى الآخر هو حق لنا طالما امتلكنا الوسيلة للحصول عليه ، وبين هذين الاتجاهين تسقط كل القيم الاجتماعية والاخلاقيه التي اخترعها الانسان كي يخفف من مأزق التجاور أو صدمته ، ليحمل بوش ( مثلا ) عدته ويدمر العراق تحت ذريعة اسلحة الدمار الشامل و لأن احدهم حمل هو ألاخر عدته ودمر برجي التجارة تحت ذريعة التمدد الأميركي الى المنطقة وتدنيسها لندخل في دوامة عنيفة ومنتجة لصدمات جديدة لأكتشاف التجاور .

هل حقا أن التجاور بهذه القسوة ؟ سؤال برسم البشرية جمعاء .ربما كنا نحن شعوب هذا الشرق الاوسط الذين اطلقنا الرسالات السماوية كحل لمشكلة التجاور ولكننا وحتى اليوم لم نكن الا ضحاياها .