يعود عبد اللطيف عبد الحميد في فيلمه الأحدث (مطر أيلول) من إنتاج (ريل فيلم) الى ما يعتقد أنه محرك الحياة البشرية على هذه الأرض ألا وهو الحب، حيث يقدم دفق مشاعر قوية عبر حكاية مختصرة ومكثفة عن الحب و (عمايله) في الحياة البشرية، حيث يبدو الحب مسؤولا عن الألم على أكثر من صعيد ومع هذا يبقى ذلك القوة التي تدفع بنا للحياة ليبدو الحب نفسه ورطة لذيذة لكنها غير مجانية بالمرة .

على الرغم من فانتازيا الافتراض الذي وضعه عبد الحميد عن رب أسر أرمل لديه ستة أولاد ذكور يعمل أربعة منهم كعازفي موسيقى في أحد مطاعم دمشق القديمة والآخرين أحدهم يعمل كبائع بطيخ موسمي والآخر في غسيل السيارات إلا أن الجميع بمن فيهم الأب واقعين في حب ما، حيث تتناقض المهن مع نوعية الحب الذي يحصل عليه كل من هؤلاء السبعة، حتى لتبدو مهنة الموسيقي كتعويض عن الحب التقليدي (خطبة ومن ثم زواج) فالمرأة أي النصف الثاني منهم محدد الدور على الرغم من افتقاد واضح لمفاعيل الحب ولكن الموسيقى تملأ هذا الفراغ، في مقابل غاسل السيارات وبائع البطيخ اللذان تظهر عليهما أعراض حب قوية كتعويض أيضا عن عملهما في مهن غير روحية إذا صحت التسمية، وكأن الفن (الموسيقى هنا) جاء ليخف من أعراض الحب المؤلمة.

سبعة عشاق على شاشة واحدة عبر نتف أو اقتطاعات من ممارستهم للحياة، لا يعكرها سوى ذاك الشخص المشكوك في وجوده على الرغم من إصرار الجميع على التصالح على وجوده، ذلك الوجود الثقيل والحشري والغير مرحب به ككابوس لا يمكن الإمساك به أو إدانته أو معاقبته ولا حتى الاعتذار منه، بحيث يتحول الى رمز لإزعاج الحب كونه مؤسس للحياة برمتها، سبعة عشاق أولهم الأب الذي يعشق مدبرة المنزل التي تعمل لديهم والتي تشتاق الى المطر ، فيصنع لها الأب مطرا اصطناعيا من مرشة تقذف الماء على سيارة الموعد الغرامي، محولا العلاقة في شكلها السينمائي الى حالة رمزية دافئة ومقهورة على التوازي مع ولديه، فغاسل السيارات يهيم بإحدى الصبايا من أصحاب السيارات التي يغسلها حيث نلمح رعاية اجتماعية للحب حتى ولو كان بين شاب فقير وصبية غنية ليظهر هذا الحب على علانيته وانحياز الناس له في شبه المعركة التي قامت بين غاسل السيارات وأبن عم الصبية المقتدر والقوي، حيث يصفق الناس لغاسل السيارات الذي ينتصر على أبن عم معشوقته في المعركة الرمزية التي قررها عبد الحميد بأدوات في منتهى البساطة والطرافة، أما بائع البطيخ الشاب الذي يركض يوميا مسافة كبيرة كي يرمي بوردة من شباك حبيبته ليكتفي بهذا القدر من النظافة الروحية وربما من الطوباوية الحياتية التي يتوق اليها المخرج نفسه حيث يبدو دونكيشوتا يثق بالحياة أكثر مما تقدر هذه الحياة من إعطائه ما يتوق إليه، بينما يستمر الأخوة ألأربعة الآخرين في زيارة خطيباتهم الأربعة الأخوات أيضا بطريقة استعراضية طريفة تسعى إلى مقارنة ما مع حب حر ومرسل ومعلن.

إنه مطبخ عبد اللطيف عبد الحميد الداخلي، الذي تتداخل فيه أولويات العيش مع أو أوليات الحياة ليبدو عبد اللطيف مرعوبا في فيلمه هذا على أولويات الحياة من أن تبتلعها أولويات العيش والأمان .

ينتمي (مطر أيلول) إلى الفانتازيا بوصفها منتهى الواقعية والتي تحتاج في حال عدم ارتكازها على الرمز الى الكثير من الشرح والإطالة، ليبدو أن عبد الحميد أتكئ على معرفة الجمهور به، وبمطبخه الداخلي ، وهذا ما حصل في صالة العرض حيث تعالت الضحكات لمجر الاقتراب من أي مشهد عالجه المخرج بطرافة معهودة في عملية تبادلية تؤرخ للعلاقة المتطاولة بين المخرج وجمهوره.

ماذا يريد عبد اللطيف عبد الحميد من السينما أو من أفلامه تحديدا؟ سؤال نصف مفضوح وإجابات نصف معلنة، تجعلنا دوما في منتصف مسافة ما، لا تستطيع إعطاء تقريرا كاملا عن هذا السينمائي الذي يحاول عصيان نفسه.. ربما لا يستطيع ذلك .