في مقال بعنوان "بدءًا من النهاية"، تاريخ 11 سبتمبر 2002، أي قبل سنة ونيِّف من احتلال العراق كتبنا: "على أيٍّ ممَّن يراهن على الحلف الأميركي- "الإسرائيلي" في الحرب القادمة إلى الشرق الأوسط أن يعلِّّق على حائط مكتبه أو غرفة نومه صورتين: الأولى للطوَّافات الأميركيَّة مغادرة السفارة الأميركيَّة في سايغون فيما العملاء من الفيتناميِّين الجنوبيِّين يحاولون التعلَّق بها، والثانية للجيش "الإسرائيلي" يفرُّ مذعورًا من جنوب لبنان، ومن أمامه وورائه عملاؤه من اللبنانيِّين في جيش لحد البائد. وهاتان الصورتان مفيدتان للطامحين إلى منصب عميل لدى أميركا أو "إسرائيل"، للتذكير بمصير العملاء أوَّلاً، ولمدى التزام أيٍّ من هاتين القوَّتين بمواثيقهما، ولا سيَّما للعملاء المحتَقَرين."

وفي تاريخ 3 شباط (فبراير) 2003، كتبنا سلسلة مقالات تحت عنوان "اللحظة ما بعد الأولى"، كان موضوعها الغزو المرتقب للعراق، وفحواها أنَّه بإمكان أيَّة دولة أن تغزو دولة أضعف منها إذا وجدت الذريعة لذلك، وملكت الإرادة لتحدِّي المجتمع الدولي. وقلنا آنذاك إنَّ "اللحظة الأولى"، أي الغزو، ليست من الأهميَّة بمقدار ما يحدث بعدها من احتلال وفوضى ومقاومة وعملاء ونظام مدعوم من الاحتلال إلى النهاية الأكيدة، سقوط النظام وجلاء المحتل. منذ الغزو الثلاثي الأميركي – البريطاني – الإسرائيلي للعراق وذلك البلد يعيش اللحظة ما بعد الأولى.

نحن الآن نقترب من "اللحظة ما قبل الأخيرة"، لنهاية الاحتلال الثلاثي المباشر للعراق. وكما سبق لنا أن وصفنا اللحظة ما بعد الأولى بأنَّها لحظة تاريخيَّة ربَّما تقاس بالأشهر والسنين وليس بالساعات والأيَّام، فكذلك هي اللحظة ما قبل الأخيرة. غير أنَّنا نعتقد أنَّ هذه اللحظة لن تطول كثيرًا. بل نتوقَّع لها أن تتم قبل نهاية منتصف الولاية الثانية للرئيس بوش، وذلك منعًا لأيَّة انعكاسات سلبيَّة ممكن أن تسبِّبها الخسائر الأميركيَّة المتواصلة في العراق على الجمهوريِّين في الانتخابات التمثيليَّة القادمة.

والإدارة الأميركية ما انفكت في الآونة الأخيرة ترسل الإشارة تلو الإشارة عن نيَّتها الانسحاب من العراق. وليس آخر هذه الإشارات تصريحات وزير الدفاع الأميركي رمسفيلد منذ زيارته المفاجئة لبغداد. ونعتقد أنه لن يكون بوسع الأمريكان، مهما حاولوا، أن يقيموا نظامًا مستتبًَا في العراق. إنهَّم فشلوا في هذا حتَّى أثناء إعلانهم عن ضرورة بقائهم في العراق لمدَّة طويلة، فكم بالحري وهم يعلنون عن نيَّتهم الانسحاب! بل إنَّنا نعتقد أنَّ النظام العراقي القائم مرشَّح للانهيار السريع لأنَّ أحدًا لا يرغب أن يكون آخر من يتعلَّق بآخر طوَّافة أميركيَّة مغادرة "المنطقة الخضراء" في بغداد.
اللحظة ما قبل الأخيرة ستكون شبيهة جدًّا، في بعض نواحيها، من اللحظة ما قبل الأخيرة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان: تصاعد في عمليَّات المقاومة التي تستهدف قوَّات الاحتلال ورموز النظام الحالي، كمًّا ونوعًا، يرافقها انهيار متسارع في جبهة النظام الحاكم، وفراغ يجتذب عددًا من القوى الإقليميَّة والدولية لمحاولة ملئه.
ولكن إذا كان وجه الشبه هذا قائم، فثمَّة فارق خطير لا بدَّ من التمعُّن فيه. حين حرَّرت المقاومة الجنوب اللبناني سنة 2000، كان لبنان قد وضع أوزار الحرب الأهليَّة وراءه لعشرة سنوات خلت. وكان لبنان، بمعظم أبناء شعبه ودولته وحلفائه، في صف واحد ضدَّ الاحتلال. من هنا سقط الاحتلال وسَلِمَ السلمُ الأهلي. الوضع ليس كذلك في العراق، فخطر الحرب الأهليَّة ماثل أمام العراقيِّين وليس وراءهم، والاحتلال يدفع البلد في اتِّجاهه.

لماذا يدفع القيِّمون على الإدارة الأميركية المنطقة نحو حرب أهلية وربَّما أكثر؟ الجواب بسيط. يعمل الأميركيُّون اليوم من وحي المنطق القائل: "أوقف خسائرك وأهرب." Cut your losses and run. وهم يعتقدون، أو هكذا يصوَّر لهم، أنَّ السبيل الوحيد للخروج من العراق، والاحتفاظ بوسيلة للتدخل المباشر في شؤونه ومنعه من التحوُّل إلى قوَّة إقليميَّة مؤثِّرة هو عن طريق إبقائه مشغولاً في حرب أهليَّة. هذا هو منطق المؤسَّسة الإسرائيليَّة، ونحن نسجِّل للمؤسَّسة الإسرائيليَّة نجاحها في إلباس المصالح الأميركيَّة ثوبًا إسرائيليَّ التصميم والصناعة.

هل سوف يؤمِّن هذا المسار مصالح الولايات المتَّحدة في المنطقة؟ لا نعتقد. بل نرى العكس. إنَّه سيزيد من خسائرها، ومن خروج غير مشرِّف لها، ومن تورُّط بعيد الأمد في حرب أهليَّة غير معروفة خواتيمها وإن كان بالإمكان تقدير نتائجها والخسائر الناجمة عنها. ناهيك عن تأجيجها للقوى المتطرفة ومدِّها بقضية تصارع في سبيلها، وتحدٍّ دائمٍ لها – لهذه القوى – ومن يقف وراءها ويستفيد منها من دول كبرى منافسة للولايات المتَّحدة، لنقل حرب إرهابيَّة إلى شوارعها وشوارع حلفائها. إنَّنا لا نتكلَّم عن سيناريو افتراضي، بل عن واقع يتكشَّف لنا من الصور الدمويَّة سواء من العراق أو من شوارع لندن وأسبانيا وشواطئ شرم الشيخ. هل من سبيل آخر؟ نعتقد ذلك، ولكنَّه صعب، ويشكِّل تحدِّيًا لمراكز الأبحاث العربيَّة ولوزارات الخارجيَّة العربيَّة ولكلِّ المؤسَّسات الاغترابيَّة العاملة في الولايات المتَّحدة. هذا الطريق يقوم على تقديم رؤية جديدة لعلاقة أميركيَّة – عربيَّة قائمة على المصالح العربيَّة الأميركيَّة المشتركة وليس على المصالح الإسرائيليَّة المتخفِّية في ثوب المصالح الأميركيَّة.

نعود إلى أوراقنا القديمة، فنقرأ من مقال "بروباغندا" تاريخ 18 تشرين ثانٍ (نوفمبر) 2002: "التحريض على العراق بدأ إسرائيليًا منذ أكثر من سنة، وكذلك التحريض على سورية. والدعاية القائلة إنَّ الولايات المتَّحدة و"إسرائيل" تخوضان الحرب نفسها ضدَّ "الإرهاب" البنلادني - الفلسطيني انطلقت مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. ومراكز الأبحاث الإسرائيليَّة-الأميركيَّة قد هيَّأت الأرضيَّة، منذ سنوات للقبول بمثل هذه الدعاية."

ومن مقال "المرآة" تاريخ 28 تشرين ثانٍ (نوفمبر) 2002: "إذا قُدِّر لنا أن نمسك بالأذن الجماعيَّة للمجتمع الأميركي فماذا نقول له؟ هل نقول له إنَّنا لسنا إرهابيَّين! هل نقول له إنَّنا لسنا أمراء بترول، ولا مهووسي جنس! هل نقول إنَّنا نقبل بإلغاء حقِّ العودة للفلسطينيِّين أم نقول إنَّ الانتفاضة خطأ؟ هذه أسئلة مهمَّة، ولكن في رأينا أنَّ الجواب عنها هو خارج هذا الإطار. فهذه أسئلة تبقينا في حالة دائمة من الدفاع عن النفس. علينا أن نخرج من موقع المُتََّهم، فنخاطب العقل الغربي مخاطبة الندِّ، شرط أن يكون الندُّ في مستوى المسؤوليَّة القوميَّة."

إنَّ الحرب الأميركيَّة إسرائيليَّة الدفع قد وصلت إلى لحظتها ما قبل الأخيرة بكلِّ ما حملته من مآس على الأميركيِّين وعلينا. ولكن اللحظة ما بعدها ربَّما تنذر بما هو أسوأ. هل إنَّ الأذن الأميركيَّة مهيَّأة لسماع صوتنا؟ ربَّما. ولكن علينا أوَّلاً أن نعرف كيف نمسك بها، وثانيًا أن نقرِّر ما سنقوله لها، وثالثًا أن نقنعها بالعمل بما نقول.