ثمة نظريتان كبريان حول الإرهاب. نظرية تفسره بعوامل تاريخية وسياسية واجتماعية وجيوسياسية وثقافية، تقبل من حيث المبدأ أن تعرض عرضاً عقلانياً مقنعاً؛ ونظرية تنكر وجود أسباب له أو تكتفي برده إلى التكوين الذاتي للإرهابيين او ثقافتهم أو دينهم أو أوضاع مجتمعاتهم. النظرية الأولى منشغلة بالأسباب إلى درجة إنكار مبدأ المسؤولية، الثاني مهتمة بإثبات مسؤولية الإرهابيين إلى درجة إنكار الأسباب والعقل. نسمي أفعال الإرهاب والنظريات التي تفسرها والسياسات التي تعالجها المسألة الإرهابية. وسنلقي هنا نظرة على بعض تناقضاتها.

التيار العربي (والغربي) الذي يبحث عن أسباب الإرهاب العربي والإسلامي في الأزمة التاريخية للعلاقات بين الغرب وعالم الإسلام وفي نوازع الهيمنة الغربية المتجددة أكثر من محق. لكن الإنسان ليس «علبة سوداء»، «مدخلاتها» مظالم تاريخية و»مخرجاتها» أعمال انتقام عمياء. هذا التفسير ينكر على العرب والمسلمين حريتهم: هناك اسباب تدفعنا للإرهاب فنندفع له دونما امتناع، ونتوسله من دون بحث عن خيارات أخرى وأشكال أخرى من الاحتجاج والمقاومة. إنه (التفسير مفرط الموضوعية هذا)، وهو يراكم الحجج ضد من يتنصلون من اية مسؤولية عن زيغ الاعتراض العربي والإسلامي على اعتداءات تاريخية غربية، يندفع إلى درجة اعتبار الإرهاب اشبه برد الفعل في الفيزياء: معقول جداً، لكنه غير عاقل وغير مسؤول ولا ينم عن حرية أبداً. بعبارة اخرى ينكر أصحاب هذا الرأي على العرب حرية الإرادة والعقل الذي يميز بين الخير والشر. وينتهون ضمناً إلى موقف عنصري، على رغم أنهم غالباً عرب، قلما يكونون عنصريين أو معادين جوهرياً للعرب والإسلام حين يكونون من الغربيين.

ليس من المحتم لهذه المقاربة السببية أن تكون ميكانيكية دوماً، وعنصرية ضمناً. استكمالها يقتضي امرين:

– إثبات أن الإرهاب لا يستنفد راهناً ولا في السابق استجابة العرب على الأزمة التاريخية للعلاقة العربية (والإسلامية دوماً في هذا السياق) الغربية، وأنهم جربوا ويجربون سبلاً اخرى للاعتراض على السيطرة الغربية، بينها الخضوع من جانب حكوماتهم، وبينها المقاومة المسلحة في اوقات سابقة، وبينها احتجاجات سلمية متنوعة من جانب مثقفيهم واحزابهم. فبهذا يتبين أن بعضهم فقط يشتركون في الاعتراض العنيف الراهن، وبه يتبدى أن للإرهاب تاريخاً قابلاً لأن يعقل. هذا مهم عملياً، فتطوير سياسات مضادة للإرهاب رهن بتيسر فرص الاعتراض السياسي والسلمي على الشكل الراهن للعلاقة العربية الغربية (الأميركية بالخصوص). مهم أيضاً من أجل توقع المستقبل. فإذا صح ما قلناه للتو فإن المستقبل يحمل المزيد من الإرهاب لا الأقل منه بالنظر إلى قلة جدوى الخضوع والمقاومة المسلحة العقلانية (دول ضد دول) والاعتراضات الثقافية والسلمية.

– دراسة ما يجري داخل «العلبة السوداء»، اعني وجدان العربي المسلم المتوسط، في تفاعله مع الأزمة التاريخية للعلاقة بين عالمي العرب والإسلام من جهة وعالم الغرب من جهة أخرى. بصورة تخطيطية، يمكن القول إنه بقدر ما تنسد آفاق العلاقة بين الطرفين ويغلب عليها طابع اللاتكافؤ واللاتوازن يلجأ الاحتجاج العربي والإسلامي إلى الدين لا إلى إيديولوجيات حداثية. ويعاد تفسير الدين الإسلامي وتشكيله في الوعي ليلبي حاجة التكون كطرف متماسك في مواجهة عسيرة وغير متكافئة، وليستجيب لمطلب المقاومة، ويضفي صفة أبدية ومطلقة على العداء العربي الغربي. إعادة الهيكلة والتوجيه هذه عملية معقدة تنتج فكراً وفقهاً وتأويلاً مختلفاً وإعادة ترتيب للمتون النصية الإسلامية التأسيسية بإبراز بعضها وحجب بعض آخر... وتكتسب بالتدريج تماسكاً خاصاً بها واستقلالاً عن الجذر الأساسي للأزمة، وتغدو مبدأ موجهاً للسلوك ومرتكزاً لانبناء الشخصية. فتلبية الطلب على التماسك والمقاومة تقضي ان يكون الإسلام ذاته متماسكاً، أي مفرغاً من التعدد والاختلاف والنسبية، صلباً. هذا الشكل السلبي من التكيف او المرونة، أو عثور الطلب على التماسك على عرض عقيدي ملائم، قلما يستوعبه حداثيون وعلمانيون بسبب مفهومهم المعياري للمرونة الذي يجعل منها توافقاً مع عقائدهم هم.

بالجملة تجري عمليتان. الانسداد يقود إلى عودة العرب والمسلمين إلى هوية اصلية، وراء الحداثة وقبلها، تطابق بالإسلام، والهوية هذه يعاد تشكيلها وتكييفها لتكون اساساً صلباً للتماسك والمقاومة.

بنتيجة العملية الأخيرة تتكون إسلامية جديدة منفصلة عن صيغ الإسلامية الأقدم من جهة، ومستقلة نسبياً عن أصلها الواقعي المتمثل في واقع مغلق، غير متكافئ وغير مستوعب وغير مسيطر عليه، من جهة ثانية. وعبر نسيان الأصل هذا أو طمره في نظام فكري نفسي معقد، يشمل فتاوى ونصوصاً واستعدادات ونظرة إلى العالم و «فلسفة تاريخ» ملحمية وقيامية، تنهي التاريخ بانتصار الإسلام طبعاً، تتكون «الإسلامية الإرهابية» المعاصرة. ولا تلبث في نظرتها لنفسها وفي نظرة اعدائها لها أن تبدو اصلاً لغيرها، أو اهتداء متأخراً إلى الحقيقة الإسلامية الخالدة أو روح الإسلام الصحيح.

بنية «الإسلامية الإرهابية» المتماسكة هذه، واستقلالها عن جذورها الأصلية، تشكل منطلقاً لمقاربة أو نظرية معاكسة ترى أن هناك ثقافة أو ديناً هو الذي ينتج الإرهاب. مقاربة لا تاريخية تقف عند النتائج النهائية للأزمة التاريخية المذكورة، مفصولة عن أصولها وأسبابها. إن التيار الغربي (والعربي) الذي ينكر وجود أسباب لإرهابنا، ويردها إلى غل من عند أنفسنا على تقدم الغرب وغناه وحداثته، ينكر على العرب العقل، ويُكنّ تصوراً بخساً عنهم: قوم حسودون، فاشلون، يدمرون ما لا يستطيعون صنعه. هذا التيار عنصري عن سابق إصرار وتصميم، وتلوثه العنصري يصيب بعدواه عرباً ومسلمين ايضاً. ونظريته المنكرة للأسباب تقصد أن لا أسباب للإرهاب في سياستنا نحن (الأميركيين أو الإسرائيليين أو البريطانيين...)، وغرضها التنصل من المسؤولية.

بين تيار لا يثبت معقولية ردود فعلنا غير العقلانية إلا بتجريدنا من المسؤولية وإنكار حريتنا في الاختيار، وتيار آخر لا يثبت حريتنا إلا للبرهنة على أنها حرية بدائية لأناس اشرار متوحشين من مرتبة إنسانية أدنى، ثمة حاجة إلى نقاش عربي جاد يحاول استعادة زمام المبادرة الفكرية والسياسية ويدافع عن الجدارة الإنسانية والحضارية للعرب والمسلمين من دون أبلسة للغرب، وينتقد بنى السياسة والاجتماع والوعي العربي والإسلامي من دون استلاب للغرب ومن دون حط من قيمة الذات. ثمة حاجة أيضاً إلى نقاش عربي غربي يعيد تسييس الإرهاب وإعادة بناء العلاقة بين الطرفين على اسس من العقلانية والعدالة. وبما أن هذا لن يجري، فإن الانحلال وحده سيتولى حل المشكلات المستحيلة. فليس الإرهاب والحرب والاحتلال غير اشكال تحلل أزمة العلاقات بين العالمين وخروجها على العقل. وقد يمكن سحق الإرهابيين جميعاً من دون تعديل أي شيء في السياسة التي أفضت إلى الإرهاب، على غرار ما جرى بنجاح في غير بلد عربي وأفضى إلى انحلال عام. هذا سيعني دفع أحوال العرب والمسلمين إلى مزيد من الانحلال والتفسخ، وتدفيعهم وحدهم ثمن أزمة علاقات عالمي الإسلام والغرب التاريخية.

السياسة الأمنية هذه تستجيب للنظرية الثانية التي تنكر أسباب الإرهاب. أما السياسة التي تستجيب للصيغة الميكانيكية من نظرية الأسباب فقد تكون ابوية أو تفضلية من النوع المرتبط عادة باليسار الغربي التقليدي.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)