هل مرّت، قبل يومين، الذكرى الرابعة لتفجيرات 11 أيلول، أم أنها الذكرى الأولى للتفجيرات إياها في مرحلة ما بعد الإعصار <<كاترينا>>؟

السؤال جدير بأن يُطرح؟ فإذا كانت العمليات الإرهابية تركت أثراً كبيراً وتحولت إلى <<فعل تأسيسي>> هناك ما قبله وما بعده، فإن كارثة نيو أورليانز آخذة في طبع الوجدان الأميركي وترك بصماتها عليه بما يسمح بالتساؤل عما إذا كانت، بدورها، ستصبح حدثاً مؤثراً.

والسؤال جدير بأن يُطرح، أيضاً، لأن الإعصار هو، بمعنى ما، <<أنتي 11 أيلول>>. إنه كذلك في غير مجال.

في 11 أيلول كانت المساواة أمام الموت كاملة تقريباً. أما في الإعصار فبدا الموت عقوبة على <<جريمة>> الفقر. وكان من الطبيعي، في الحالة الأولى، أن تُستفز مشاعر العزة الوطنية الأميركية، وأن تتوحد الأمة التي لسعها الإرهاب فوق أرضها التي تحيطها المياه. إلا أن ما حصل، في الحالة الثانية، هو أن أمة بدأت تشهد تصدعاً جدياً حول الموقف من قضايا مصيرية، ازدادت تصدعاً نتيجة <<انتخاب>> الموت ضحاياه، والمسؤولية البشرية المباشرة عن تحويل هؤلاء إلى قرابين. كانت أميركا قبل أربع سنوات رجلاً واحداً، إلا أنها اليوم رجل أبيض ورجل أسود؛ رجل غني ورجل فقير؛ رجل يسكن الأعالي الآمنة ورجل يسكن المنخفضات الخطيرة؛ رجل تجعله اللامبالاة شريكاً موضوعياً في الجريمة ورجل يجعله شرطه الاجتماعي غير الاختياري غريقاً، أو مشرداً، أو لاجئاً، أو، في أحسن الأحوال، إذا نجا، سارقاً ومعتدياً على المال الخاص لغيره.

قدمت الإدارة اعتداءات 11 أيلول بصفتها هجوماً يشنه <<البرابرة>> ضد النموذج الأميركي الحضاري، المتقدم، الديموقراطي، المحترم للإنسان وحقوقه؛ هجوماً لا دافع له سوى تدمير <<نمط حياة>> اختاره قوم أحرار لأنفسهم. ثم جاء الإعصار فأخذ في دربه قسماً من هذه الأساطير. إن أميركا مجتمع ديموقراطي، ومتقدم طبعاً، ولكنه، أيضاً، مجتمع التفارق الاجتماعي، والتمييز العرقي، والمؤسسات المتعثرة، والتوحش الرأسمالي. إنه، بمعنى ما، مجتمع لا يشكل أرقى مثال للتصدير ولا يستطيع الادعاء أنه المحطة النهائية للتاريخ.
هجمات 11 أيلول <<برانية>>، بمعنى أنها وافدة من الخارج، ولأسباب لا علاقة للداخل البريء بها. إنها فعل شيطاني وشرير لامس أمة الخير والعطاء والغيرية. أما الإعصار ففعل طبيعي كشف المخبوء في هذا الداخل، وعرّاه، ودفع أهله إلى الغوص في دواخلهم بحثاً عن النواقص.

ردت الولايات المتحدة على 11 أيلول بإجراءات أمنية، بتعديلات في بعض القوانين، بتعكير العلاقات الدولية، وب<<حرب عالمية على الإرهاب>> قادتها إلى بغداد. إلا أن بوش أصر على عدم تدفيع المكلّف الأميركي ثمناً لهذه الحرب، فامتنع عن فرض ضرائب (هذه سابقة في زمن حربي)، ومضى في برنامجه الاقتصادي موسعاً دائرة الفقر وحاصراً الثروات المتزايدة في قبضة أقلية تزداد انحساراً (تُجمع الإحصاءات الرسمية الأميركية على ذلك). لقد كانت الكلفة المادية تزيد عجز الموازنة، وكانت الكلفة البشرية ترمي أبناء الفئات المهمشة في حرب حيث لا أسلحة دمار شامل ولا إرهاب. أما بعد الإعصار فلقد ثبت أن الأرض الوطنية غير محمية تماماً، وأن وزارة الأمن التي عرضت قبل أشهر برنامجها لمكافحة آثار جريمة إرهابية، أو زلزال، أو طوفان، أو إعصار، ليست مستعدة أبداً لمهمة من هذا النوع. إلى ذلك، بات واضحاً، أن كلفة علاج ما حصل ستكون عالية، وأن شيئاً ما يجب أن يتغيّر في مملكة الخير المزعوم.

عندما وقعت أحداث 11 أيلول لم يكن الجناح النافذ سياسياً في الإدارة يملك رداً برنامجياً. لذلك حصل ما حصل، واستعار القوميون المتشددون والمحافظون التقليديون برنامج الجناح النافذ أيديولوجياً في الإدارة، برنامج <<المحافظين الجدد>>.

غير أن إعصار <<كاترينا>> يمثل تحدياً من نوع جديد إذ لا أحد ضمن الإدارة الحالية، ولا المحافظون الجدد تحديداً، يملك جواباً عليه. فهذا الجواب يُفترض البحث عنه في بيئة أخرى متباينة عن بيئة بوش وتشيني ورامسفيلد، ومتناقضة مع بيئة المحافظين الجدد. فالأخيرون متهمون بأنهم دفعوا نحو مغامرات عسكرية جعلت البلاد أكثر انكشافاً. ولكن المحافظين التقليديين، وبوش على رأسهم، متهمون بأنهم دفعوا نحو سياسات اقتصادية اجتماعية جعلت الولايات المتحدة في جهوزية لاستقبال الكارثة التي كانت تنتظر لحظة وقوعها من فرط ما هي معلنة.

لا يملك بوش إلا الاستدارة إذا كان يريد حصر الخسائر. وهو لا يستطيع إلا تجميد خططه للولاية الثانية والقاضية بالاستمرار في الاقتطاع الضريبي، وخصخصة الضمان، والدفع نحو مجتمع الملكية والشراكة. إنه، الآن، في ورطة أيديولوجية لم يكن يعتقد أنه سيواجهها، وسيضطر، تحت ضغطها، لامتداح <<الدولة>>، ولتمجيد دورها، ولإيكال المهمات الكبرى داخلياً إليها، ولتدشين مرحلة إنفاق يستفيد منه المتضررون. هذه كلها <<هرطقات>> في نظر الحزب الجمهوري (وفي نظر قطاع واسع من الحزب الديموقراطي)، وفي نظر قاعدته الصلبة، وفي نظر منظومته الفكرية التي كان يُفترض فيها، أمانة لنفسها، أن تحمّل الضحايا، فرداً فرداً، مسؤولية خيارهم بأن يكونوا فقراء، وملوّنين، وغير مالكين وسائل نقل، وساكنين في عين الإعصار.

كلا، لم يكن هناك أي تناقض جوهري بين ما يفعله بوش في الخارج وما يفعله في الداخل. إن سياسته الخارجية امتداد لسياسته الداخلية، والاثنتان موجهتان لخدمة المعسكر إياه، والشرائح الاجتماعية نفسها، والمنظور الأيديولوجي عينه. وبهذا المعنى، قد لا يكون صحيحاً القول إن ما شهدناه هو انفجار التناقض بين السياستين. إن الأصح، ربما، هو ارتطام السياستين بالواقع واكتشافهما المرير حدودَهما: ليس العالم صفحة بيضاء يخط عليها مهووسو الإدارة ما يشاؤون، وليست أميركا نفسها حقل تجارب مشلولاً من أجل اختبار قدرتها على تحمّل هذا التمزق في نسيجها الداخلي.

لن يكون ممكناً تقدير الاستدارة التي سيضطر إليها الرئيس، ولا معرفة ما إذا كانت ستستمر بعد هدوء العاصفة. لقد شرعت الأصوات، في معسكره، تحذر بوش من ألا يكون بوش، أي من ألا يكون رجلاً فارغ الرأس وجاف القلب (حسب زميل فرنسي).
وتصدر هذه الأصوات من جهتين. جهة أقصى اليمين الليبرالي اقتصادياً التي شرعت في طرد شياطين الدولة العائدة. وجهة <<المحافظين الجدد>> التي تخاف على <<رئيس الحرب>> من التخاذل. ولكن ما لا شك فيه أن المواجهة الداخلية في أميركا تدور، بعد <<كاترينا>>، في شروط مختلفة عن المواجهة التي دارت بعد 11 أيلول.

مصادر
المستقبل (لبنان)