ثمة إحساس بأن أميركا اليوم قد غدت أمة تتصف بالكسل والانغماس في الترف بدرجة تدعو للقلق في الحقيقة، وهي صفة أبرزها بوضوح إعصار كاترينا، كما لاحظها هؤلاء الذين يعيشون في دول لا زالت قوانين الجاذبية مطبقة فيها. لقد انزعج هؤلاء جميعا مما رأوه أمامهم بنفس الطريقة التي ينزعج بها الناس وهم يرون أباً أو رمزاً وهو يتهاوى أمامهم.

كان ذلك هو ما شعرت به وأنا أتابع تفاصيل كارثة الإعصار كاترينا من على بعد آلاف الأميال من أميركا، وتحديدا من سنغافورة وهي دولة- مدينة تؤمن بالحكم الرشيد ضمن ما تؤمن به. فأرصفة سنغافورة قد تخلو من المارة في وقت مبكر نسبيا، كما أن سلطاتها قد تقوم بتغريمك إذا ما قمت ببصق العلكة من فمك على الأرض، ولكن إذا ما كان أمامك أن تختار مكانا تريد أن تكون فيه عندما يضرب إعصار مدينة آسيوية، فإن هذا المكان سيكون بالتأكيد سنغافورة لأنها دولة تعرف كيف تختار مسؤولي الدفاع المدني لديها.

وفي الحقيقة، أن سنغافورة تؤمن إيمانا راسخا بأنه يتعين عليها أن تختار أكثر الأشخاص تأهيلا، وأقلهم فسادا في المناصب العليا في الحكومة، إلى درجة أنها تدفع مرتبا لرئيس وزرائها يصل إلى 1.1 مليون دولار سنويا، كما تدفع لوزرائها وقضاة المحكمة العليا بها مرتبات تقل قليلا عن المليون دولار، وتدفع للقضاة الآخرين وكبار موظفي الخدمة المدنية مرتبات مجزية.

ومنذ سنوات سنغافورة المبكرة، كان الحكم الرشيد أمرا ذا أهمية بالغة، خصوصا وأن الحزب الحاكم هناك كان يخوض في ذلك الوقت معركة ضد الشيوعيين من أجل كسب عقول وقلوب الشعب السنغافوري - الذين كان ينظر إلى الشيوعيين على أنهم قوم غير فاسدين ومراعين لمصالح الشعب- وإقناعه بأن الدولة ستبقى كما هي، أو تتحول إلى الأفضل تحت حكمه.

وحتى بعد أن خبا نفوذ الشيوعيين، فإن سنغافورة حافظت على تقاليد الحكم الرشيد، لأن تلك الدولة- المدينة التي يبلغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة، والتي لا توجد لديها موارد طبيعية، كان يجب أن تعيش اعتمادا على نفسها وعلى حسن تدبيرها للأمور. كانت سنغافورة بحاجة إلى أن تتم إدارة الاقتصاد والتعليم فيها بطريقة تنتزع من كل مواطن خير ما فيه، وهو ما جعل احتياطي النقد الأجنبي لتلك الدولة، التي لا يزيد عدد سكانها عن 4 ملايين نسمة كما قلنا، يصل إلى 100 مليار دولار.. نعم مئة مليار دولار.

حول ذلك قال لي "كيشور مهبوباني" عميد مدرسة "لي كوان يو للسياسة العامة": "في المجالات الحيوية بالنسبة لبقائنا مثل الدفاع والمالية والشؤون الداخلية، كنا نبحث دائما عن أفضل المواهب.. لقد فقدتم أنتم في أميركا مدينة نيوأورليانز، ولكن لا تزال لديكم مئات المدن مثلها.. أما نحن فإننا دولة – مدينة وإذا ما فقدنا مدينة سنغافورة فلن يتبقى لدينا شيء آخر... لهذا السبب فإنك تجد أن معايير الانضباط لدينا صارمة جدا، وأن موضوع المساءلة عندنا يحظى بدرجة عالية للغاية من الأهمية".

ما يقوله هذا الرجل صحيح، بدليل أنه عندما انهار نفق مترو تحت الإنشاء في إبريل 2004، مما أسفر عن مصرع أربعة من العمال، تم تشكيل لجنة حكومية للتحقيق، توصلت في النهاية إلى قرار مؤداه أن كبار مسؤولي شركة المقاولات التي تقوم بتنفيذ المشروع يجب أن تصدر بحقهم أحكام بالغرامة أو الحبس.

في مقابل هذه الصورة، نجد أن الانضباط الذي فرضته الحرب الباردة على أميركا قد تلاشى على ما يبدو. فعلى سبيل المثال، نجد أننا قد قمنا العام الماضي بإجراء تخفيض على ميزانية "مؤسسة العلوم الوطنية" في نفس الوقت الذي قمنا فيه بتمرير مشروعات قوانين متعلقة بالمواصلات والطاقة لأغراض انتخابية، على الرغم من أزمة الطاقة الطاحنة التي نمر بها.

لقد تركنا أسر ضحايا الحادي عشر من سبتمبر كي تقوم بإعادة صياغة شكل مؤسساتنا الاستخباراتية وهو ما لم يكن يجوز، كما تركنا رئيسنا يعقد جلسة في منتصف الليل في الكونجرس لمناقشة العناية الصحية بامرأة واحدة هي "تيري شيفو"، في نفس الوقت الذي تجاهلنا فيه الأزمة الصحية التي يعاني منها 40 مليون مواطن أميركي غير مؤمن عليهم صحيا. أما اقتصادنا فإن الذي كان يحركه في الآونة الأخيرة على ما يبدو هو قيام الناس بمقاضاة بعضهم بعضا أو بيع منازل بعضهم لبعض آخر. كما قامت حكومتنا بشن حرب في العراق دون أن تكون لديها أي خطة حقيقية لمواجهة الصباح التالي، وقامت كذلك بتقليص الضرائب في منتصف تلك الحرب، كي تنقل عبأها إلى الأجيال القادمة من الأميركيين.

في معرض تعليقه على إعصار كاترينا كتب "سوميكو تان" كاتب العمود في العدد الصادر يوم الأحد الماضي من صحيفة "ذا ستريت تايمز" السنغافورية: "لقد أصبنا بالصدمة مما رأيناه. إن مشاهد الموت والدمار جزء لا يتجزأ من الكوارث البشرية، ولكن منظر جثث الموتى التي تركت دون أن يجمعها أحد من الشوارع، ومنظر الأفراد المسلحين وهم يقومون بنهب المحال التجارية ومنظر الناجين المنتظرين لمن يأتي لإنقاذهم، ومظاهر التمييز العنصري الذي رأيناه.. كل ذلك كان في الحقيقة غير متسق مع الصورة التي كنا نتخيلها عن أرض الحرية. صحيح أننا كنا نرى متشردين في الشوارع ونرى مظاهر للعنف عند زياراتنا لأميركا، إلا أن الطريقة التي رأينا بها أميركا وهي تفقد تماسكها عندما تواجه كوارث في عقر دارها، جعلتنا نتساءل كيف يمكن لها أن تضطلع بدورها -بعد ما رأيناه- كقائدة للعالم الحر".

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)