لا يحول الكلام الساذج أحياناً عن «الشرعية» و»المجتمع» الدوليين دون ملاحظة التعديل الكبير الذي طرأ على معنى المصطلحين منذ تصدع الاتحاد السوفياتي. وهي عملية استؤنفت بنشاط بعد 11 ايلول (سبتمبر) 2001، مفضيةً الى اكساب «الشرعية» و»المجتمع» هذين مضموناً أميركياً أكبر من ذي قبل. وبدورها، جاءت حرب العراق، غير المغطاة قانونياً، تتوّج تلك الوجهة النامية فيما تدل، في الوقت نفسه، الى قصورها. فقبل ان يتكشّف كامل المصاعب أمام سياسة التفرّد الأميركية، أتت إدارة بوش الثانية تحاول استدراك التفرّد وتلطيفه. وإذ تبين لواشنطن انها لا تستطيع إلا ان تأخذ في الاعتبار مواقف أوروبا وروسيا، وفي الشرق الأقصى الصين، تبين ان معارضة، كتلك الروسية في إيران قادرة على أحداث تعديلات متفاوتة في وجهة الشرعية والمجتمع الدوليين.

وقصارى القول ان الانزياح المؤكد باتجاه الأمركة تعرض لشيء من الضبط الذي لا يكفي لتغيير واقع الانزياح وإن كان يرسم له حدوده. فثمة، مثلاً، محالة روسية - صينية جادة لتفكيك مواقع النفوذ الاميركي في آسيا الوسطى والتي انشئت قبيل الحرب الافغانية. إلا ان محاولات كهذه تصطدم بخصوصيات مناطقها فنرى اليابان، مثلاً، وبمحض ارادتها، تعطّل المساعي الصينية لبناء منظمة أمنية مستقلة عن النفوذ الأميركي في جنوب شرق آسيا. كما يُلاحظ ان تراخي العمل لضبط الجموح الاميركي كثيراً ما تسببت به الأطراف المناهضة للولايات المتحدة، وقد يكون المثل الأبرز، هنا، الاصطفاف الأوروبي وراء واشنطن في الشأن السوري - اللبناني: ذاك ان الوجهة التي عاينّاها ما بين سحق «ربيع دمشق» في 2001 والتمديد لأميل لحود ثم اغتيال رفيق الحريري كانت الأفعل، هنا، من سياسة الإملاء المنسوبة الى بوش.

غير ان الرد على التحول الذي تعرض مفهوما «الشرعية» و»المجتع» الدوليان له، يتخذ شكل خروج من الشرعية والمجتمع المذكورين. وهي سمة تغذت على لا قانونية الحرب العراقية وصلف السلوك العسكري الاسرائيلي، إلا أنها غدت، وتغدو، موقفاً جماعياً متماسكاً لا تخطئه العين.

فإذا تجاوزنا الأشجار الى الغابة، وقعنا على حالات متفاوتة الدلالة يسخو المشهد الراديكالي بتقديمها، تلتقي كلها عند الملح هذا: ففي ايران يتحدث رئيس الجمهورية عن «إزالة» اسرائيل، بعد سنوات من التكتم على برنامج نووي قد يكون سلمياً وقد لا يكون. وإذ توضع سورية، بعد تقرير ميليس، في موضع الاشتباه، يتعاورها مجلس الأمن وقراراته (وهي كانتانتصرت للمجلس والقرارات ضد واشنطن إبان حرب العراق)، نجد ان «الرباعية»، لا واشنطن، مَن يطالب باخراج «الجهاد الاسلامي» من دمشق. وفيما يعيد تقرير لارسن التذكير بمجافاة «حزب الله» واقعَ الدولة، كما الإملاءات الشرعية الدولية ومتطلباتها، ويعلن حسن نصرالله كلاماً صريحاً في ما خص الشرعية تلك، توفّر حالتا «القيادة العامة» و «فتح الانتفاضة» نموذجاً دالاً، وكاريكاتورياً، عن العنف المنفصل عن السياسة والمستمر بقوة الوظائف الاقليمية العابرة لسيادات الدول. وليس في وسع أي مراقب ان يسهو، في المجال هذا، عن «المقاومة» العراقية. ذاك ان أشد حلفائها حماسة يجدون أنفسهم مضطرين لإنفاق الجهد والوقت كي يقنعونا بأنها «مقاومة». ذاك ان وزن الارهاب فيها، أكان زرقاوياً أم غير زرقاوي، أكبر، بلا قياس، من وزن أي إرهاب في اية مقاومة أخرى.

والحال ان النماذج السورية واللبنانية والفلسطينية والايرانية المذكورة أعلاه تنضح كل منها بدرجة من ذاك الالتباس العراقي. وهي انما غدت، وتغدو، لأسباب موضوعية جداً، على هذه الصورة التي تتداخل راديكاليتها وانتحاريتها وخروجها المتعاظم عن الشرعية والمجتمع الدوليين تداخلاً وثيقاً. وربما كانت هذه مواصفات الراديكالية في الزمن ما بعد السوفياتي، حيث يسير العجز المتنامي مع تنامي الغرْف من الخرافات، أتمثلت في دعوات الزرقاوي أو في خطبة نجاد. بيد انها نوع معاصر، خطير وكهفي، من اللودية، نسبةً الى نيد لود، ذاك العامل الانكليزي الذي دعا، مطالع القرن 19، الى تدمير آلات صناعة النسيج اعتراضاً منه على التغييرات التي تحدثها الثورة الصناعية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)