تعاود الدبلوماسية السعودية اشتباكها القديم مع أزمات المنطقة المفتوحة وملفاتها المختلفة، بعد سنوات طوال من "الركود والانطواء" أفسحت في المجال لقوى إقليمية لملء فراغها، وسمحت للاعبين عربا أقل وزنا للصعود على مسرح البؤر المشتعلة، تماما مثلما يحدث على المسرح حين يحضر "الدوبلير" ليملأ فراغ الممثل/النجم، لاسيما عند تقديم بعض المشاهد الصعبة أو المحرجة.

الدبلوماسية السعودية تتحرك هذه الأيام في مختلف الاتجاهات...اتصالات رفيعة المستوى مع إيران، وأخرى عبر قنوات خلفية مع إسرائيل، وحضور كثيف في الملفين الفلسطيني واللبناني، وتلويح بتدخل استثنائي في العراق ذودا عن عربه السنة، فضلا بالطبع عن موقع القلب الذي تحتله الرياض في إطار معسكر المعتدلين العرب، واحتفاظها بعلاقات متميزة مع آل بوش والإدارة الجمهورية في واشنطن.

ويتغذى الحراك الدبلوماسي بعائدات نفطية وفرت لخزينة المملكة فائضا بليونيا غير مسبوق، وأمدت الدبلوماسية السعودية بأذرعة الاقتدار المالي غير المجارى، والمال كما بات معلوما، هو أحد مصادر القوة المادية التي تتوفر عليها المملكة إلى جانب "مكانتها الروحية" المستمدة من "حضانتها" للحرمين الشريفين.

بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في الأوساط السياسية والدبلوماسية والأكاديمية، ما زال يتعلق ببواعث هذا النشاط المحموم والمفاجئ نسبيا للدبلوماسية السعودية، وما إذا كان "المحرك الإيراني/الشيعي" هو الأساس الكامن خلف هذه الصحوة، أو ما إذا كان "صراع الأدوار والزعامة" بين الرياض وطهران هو ما يدفع المملكة إلى الخروج عن رتابة سياستها الخارجية في السنوات الماضية.

وهناك من يتحدث عن مقتضيات استضافة المملكة للقمة العربية المقبلة ورئاستها لها، وحرص المملكة على نجاح أول قمة عربية تعقد على أرض سعودية أو خليجية على الإطلاق، كمحفّز يملي على السعودية حراكا غير عادي.

أيا يكن من أمر، فإن يقظة الدبلوماسية السعودية أمر مطلوب ومرغوب فيه من قبل دوائر عربية واسعة، بيد أن نجاح الدبلوماسية السعودية مرهون بتوفر جملة شروط أهمها:

أولا: نجاح المملكة ومن خلفها معسكر الاعتدال العربي، في الحفاظ على مسافة واضحة من المشروع الأمريكي في المنطقة، فهذا المشروع يتهاوى على رؤوسنا ورؤوس أصحابه، وأركان هذا المشروع ومروّجوه يلقون حرجا ومشقة في تسويقه أمريكيا فلماذا نشتري بضاعة ردها ثلاثة أرباع الأمريكيين، والأخطر من كل هذا وذاك، أن هذا المشروع فشل في الاختبار وتأكد لكل أعمى وبصير أنه محكوم بأجندة إسرائيل وأولوياتها.

ثانيا: نجاح المملكة في التمييز بين الاستهداف الأمريكي – الإسرائيلي لإيران وحلفائها المتأسس على منطق المحافظين الجدد واليمين المسيحي من جهة، وبين المخاوف العربية المشروعة من الاندفاعة الإيرانية المجنونة في العراق تحديدا من جهة ثانية، فمشاكلنا مع إيران شيء وحرب أمريكا على إيران شيء آخر، وعلاج هذا المشاكل مختلف تماما.

ثالثا: أن "الاحتواء والشمول" هما المقاربة المجربة لاحتواء أزمات المنطقة وشمول مختلف اللاعبين على مسارحها في الجهد الرامي لإطفاء الحرائق وحل الأزمات، ولهذا يتعين على المملكة أن تقف على مسافة واحدة من الأفرقاء المحليين في لبنان وفلسطين والعراق، وأن لا تبدو مذهبيا، كطرف سني في مواجهة الشيعة، وسياسيا كطرف متماه مع واشنطن أو "دوبلير" لها في التعامل مع "محور المتطرفين العرب".

رابعا: أن الدبلوماسية السعودية لن تستطيع وحدها معالجة أزمات المنطقة والإقليم، لكنها ستكون قادرة على ذلك تماما، إن هي عملت بالشراكة مع حلفائها وأصدقائها الكثر في المنطقة، فلا سباق أدوار ولا تزاحم على المانشيتات الرئيسة بين الرياض والقاهرة وعمان ودمشق، فلكل عاصمة دورها ونصيبها في الفعل والتأثير، والحوار الهادف إلى "الاحتواء والشمول" هو الطريق الأقصر لتفادي المزيد من الكوارث في هذه المنطقة المنكوبة.

مصادر
الدستور (الأردن)