مكالمة واحدة بين بوش وأولمرت، لا أدري كم من الوقت استغرقت، كانت كفيلة بالإطاحة بمهمة رايس المنتظرة في المنطقة، فالرجلان قررا مع سبق الترصد والإصرار، مقاطعة حكومة الوحدة الوطنية، في خطوة "استباقية" تستهدف وقف كرة تفكيك الحصار التي أخذت بالتدحرج فور التوقيع على اتفاق مكة في الثامن من الجاري.

وبدل أن تأخذ تل أبيب وواشنطن بـ"نصف الكأس الملآن" في الاتفاق، كما فعلت سائر عواصم الكرة الأرضية، آثرت الحليفتان الإستراتيجيتان شن حملة شعواء على حكومة الوحدة، عنوانها إجبار حماس على رفع الرايات البيضاء، والنطق بذات الجمل والعبارات، وبنفس اللكنة المقرة في واشنطن، بشروط الرباعية الدولية، ومن دون مقابل على الإطلاق سوى الوعود الكاذبة والرؤى الضبابية التي لم تجلب نفعا، بل وتسببت بالكثير من الكوارث المحدقة بالشعب الفلسطيني.

رايس التي جاءت بوعد إطلاق عملية السلام في المنطقة، طوت الكثير من أوراقها بعد المكالمة المذكورة، وانتقلت بخفة وسهولة من موقع "الوسيط النزيه" إلى موقع من يطلق التهديدات والتحذيرات ويمارس الضغوط على الجانب الفلسطيني، والجانب الفلسطيني فقط، فهي إذ عبرت عن رغبتها في تأجيل الإعلان عن موقفها النهائي من حكومة الوحدة إلى ما بعد تشكيلها، فإنها لم تفعل ذلك من باب "الحكمة والكياسة الدبلوماسية" بل للتحقق من الأثر الذي ستحدثه هذه الضغوط على الفلسطينيين وتحديدا فريق السلطة والرئاسة.

رايس التي جاءت إلى المنطقة بالمال والسلاح لدعم عباس في مواجهة حماس ولإسقاط حكومتها، حتى وإن تطلب ذلك انزلاق الفلسطينيين إلى مستنقع حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، عدّلت من مواقفها بعض الشيء، فهي أبلغت عباس بأن إدارتها ستكف عن التمييز بين فتح وحماس، الرئاسة والحكومة، ما لم تنصاع الحكومة وحماس لصك الإذعان المكتوب مسبقا، وأن المقاطعة التي خصت بها حماس والحكومة ستطاول فتح والرئاسة إن ظلت الحركة والرئيس على استمساكهما باتفاق مكة وحكومة الوحدة.

الموقفان الأمريكي والإسرائيلي ليسا مفاجئين بطبيعة الحال، فقد حذرنا بعيد التوقيع على الاتفاق من "جدار الفصل" الذي ستسعى تل أبيب وواشنطن لبنائه بين الفلسطينيين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين المجتمع الدولي من جهة أخرى، وها هي رايس في فلسطين تلعب دور المهندس لبناء هذا الجدار، وبذات الكفاءة التي لعبت بها دور "الجنرال" في حرب إسرائيل الوحشية على لبنان صيف العام الماضي.

وقلنا من قبل، ونقول اليوم، أن الفلسطينيين لحظة توقيعهم على اتفاق مكة وشروعهم في تشكيل حكومة الوطنية، أطلقوا من الإشارات ما يكفي نسبيا للحكم على نجاحهم في تخطي المحاور والنجاح في امتحان "استقلالية قرارهم الوطني"، وأن لحظة الامتحان الحقيقي تنتظر العرب، خصوصا من رعوا الاتفاق وأيدوه للبرهنة على "استقلالية قرارهم القومي"، وطالبنا القادة العرب بـ"تعريض أكتافهم" لحمل أعباء هذا الاتفاق والذود عنه وتوفير شبكة الأمان المطلوبة لحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي طالما دعوا لها وطالبوا بتشكيلها.

لحظة الحقيقة والاستحقاق أزفت بأسرع مما كنا نتوقع، وموعد اختبار المقلق يقترب بسرعة شديدة، فإما أن يدير العرب ظهورهم للفلسطينيين بحجج وذرائع شتى، وإما الاضطلاع بمسؤولياتهم القومية، والمبادرة إلى كسر الحصار السياسي والمالي، مزودين بدعم العالم بأسره الذي ضاق ذرعا بواشنطن وسياساتها الأحادية والتصعيدية التي لم تجلب سوى الخراب ومشاريع الحروب الأهلية في الإقليم برمته.