ليس سراً أن سرباً محدوداً من العائلات يمسك بكل تلابيب السلطة المالية والاقتصادية في أمريكا ويمارس من نوافذها نفوذاً غير مباشر على السلطة السياسية. وليس خافياً ان هذه العائلات التي تشكل واحداً في المائة من إجمالي 250 مليون أمريكي، تمتلك وحدها جل الثروة القومية الأمريكية.

لكنْ هناك سر داخل هذا السر: كيف تمكنت عائلة بوش دون غيرها من العائلات من الدمج بنجاح بين السلطتين الاقتصادية والسياسية، وهذا على مدى حقبة غير قصيرة من الزمن.

الكاتب الأمريكي كيفين فيليبس ركب رأسه وقرر فك طلاسم هذا السر. فكانت الحصيلة دراسة مشوقة بعنوان “السلالة الحاكمة الأمريكية”.

يتعقب فيليبس في هذه الدراسة الخط التصاعدي لأفراد هذه العائلة منذ بداياتها الأولى في القرن التاسع عشر، من نخبة استثمارية في المصارف الى وسطاء في لعبة النفوذ السياسي، استخدموا هيمنتهم المالية ومناوراتهم السياسية الملتبسة للوصول الى البيت الأبيض وإحداث هزة عنيفة في المرتكزات الديمقراطية العريقة، على حد تعبيره.

و يؤكد الكاتب، في هذا الاطار، وبالأمثلة الموثقة، ذلك التحالف الخطير بين المصالح المالية الواسعة لآل بوش المتمثلة في شركات عملاقة، من بينها “انرون” و”هاليبورتن”، من جهة، والتخطيط للسياسة القومية من جهة أخرى. ويثبت أنّ ليس ثمة عائلة سياسية أخرى من هذا الطراز، انخرطت الى هذه الحدود القصوى في الإعلاء من شأن الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة، في مطلع الألفية الثالثة، ودائماً على حساب السلام العالمي والإقليمي، وذلك حماية لمصالحها الشخصية.

ويجتهد المؤلف كثيراً في محاولة لم تكن يسيرة على الإطلاق، لشرح العلاقات والاتصالات والشراكات التي نسجها آل بوش مع أصحاب السلطة والمال والاقتصاد في الولايات المتحدة. ويتوصل الى قناعة تبدو مذهلة لكثيرين داخل المجتمع الأمريكي وخارجه، تفيد بأنّ عائلة بوش التي تعاقبت على مجلس الشيوخ ووكالة المخابرات المركزية، ورئاسة الجمهورية وسوى ذلك، قد استخدمت على نحو منهجي منظم، امبراطوريتها المالية والاجتماعية وتوجهاتها الارستقراطية، ليس بغية الوصول الى البيت الأبيض فحسب، بل للاستحواذ عليه، وذلك على حساب انتهاك أكثر الأسس الديمقراطية أهمية في تاريخ الولايات المتحدة ونشوئها كذلك. وعائلة بوش، وهي تحقق تطلعاتها وطموحاتها في عالم السياسة والمال، نجحت في إعادة ابتكار نفسها في توقيت يقترب من العبقرية، وخصوصاً أثناء التحول الذي طرأ عليها أخيراً باعتناقها المبادئ المسيحية الإنجيلية التي تتسع كثيراً لخزعبلات ما يسمى بالمسيحية الصهيونية التي تتخذ من التوراة مدخلاً الى فهم مغلوط للمسيحية، يبرر قيام “إسرائيل” والمجازر التي ترتكبها بحق الفلسطينيين.

اللافت في هذه القراءة الاستكشافية لعلاقات آل بوش وشخصياتهم وشبكاتهم المالية الواسعة، أنّ الكاتب لا يكتفي فقط بتشريح هذه “كسلالة حاكمة”، بل يتوجه الى أبعد من ذلك ليحاكم النظام السياسي في الولايات المتحدة، وخصوصاً تلك المصالح المتشابكة والمعقدة بين المؤسستين العسكرية والصناعية الحربية، على خلفية الارتباط المحكم الوثاق بين هاتين، من جهة، ولعبة النفوذ السياسي، من جهة أخرى. ويصف المؤلف هذه العلاقة الملتبسة على كثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها، بأنّها “مزيج جهنمي بين الاستثمارات الحربية والطاقة والمخابرات وعالم السياسة والسلطة والمال”.

ويذكّر الكاتب بالنصيحة التاريخية التي أطلقها الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، أيزنهاور، حول وجوب الحذر الشديد من هذا التحالف والتصدي له والعمل على تفكيك أوصاله في كل آن، كي لا يتحول وحشاً ضارياً يزعزع المرتكزات الديمقراطية للولايات المتحدة.

ومهما يكن من شأن عائلة بوش وامتداداتها الاخطبوطية في السياسة الأمريكية وخلفياتها الراسخة في عالم المال والسلطة، فإنّ دراسة فيليبس وثيقة مهمة جداً لفهم طبيعة العلاقة الغريبة بين العائلات الكبرى وبين السياسة.. في أمريكا الديمقراطية!

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)