الحلف الاطلسيّ هو حلف بالغ القدم حرّر أوروبا من النّازيّة و يحمينا من الرّوس، هذا على الأقلّ ما يجب علينا الاعتقاد فيه. و الحقيقة التّاريخيّة مختلفة تماما، لكنّ الحلف يحاول إعادة صياغتها. و هي مهمّة طويلة المدى ذات تبعات مظلمة.
تنويه: بينما سبق أن نشرنا هذا المقال في العديد من اللّغات، فإنّ كاتبه قد وقع إيقافه و سجنه، هذا ما أكده منسق أجهزة المخابرات البولونية. [1]
ستستضيف فرصوفيا قمّة رؤساء الدّول و الحكومات في الحلف الأطلسي الّذين سيجتمعون في إطار مجلس شمال الأطلسي، في 8 و 9 جويلية 2016. و يُتَوقّع من هذه القمّة الخامسة و العشرين للحلف أن تُفعِّل الاتّفاقيّة المبرمة في نيوبورت، في 2014. و يتعلّق الأمر بالتّحديد بإنشاء قوّة التّدخّل السّريع في أوروبا الشّرقيّة بشكل يُمَكِّنُ من الدّفاع عن الجبهة الشّرقيّة للحلف. و قد صرّح الوزير البولونيّ للشّؤون الخارجيّة، ويتولد واتشيكوفسكي، مسبقا أنّ قرار إنشاء قواعد عسكريّة دائمة للولايات المتّحدة و الحلف الأطلسيّ على الأراضي البولونيّة سوف يعلن خلال القمّة.
و يتوقّع خلال هذه القمة حضور 2500 مشترك و 1500 صحفيّ أجنبيّ. و قد وقع تسخير الملعب الوطنيّ الواقع في وسط فرصوفيا للحدث. و تمّ تشديد الاجراءات الأمنيّة، لمواجهة تهديدات ارهابيّة محتملة، و تحسّبا للمظاهرات الّتي أعلنت أحزاب معارضة لانعقاد القمّة عن نيّة تنظيمها.
و بالتّوازي مع الاستعداد للحدث، شنّت حملة إعلاميّة ضخمة، غرضها الأساسيّ إثارة الخوف من الأعمال و المخطّطات العدوانيّة الّتي يزعم أنّ روسيا تعدّ لها. و الحرب على الذّاكرة تمثّل جزءً من هذه الحملة طويلة المدى. و هنا، يحسن بنا أن ندرك أنّ إعادة تقييم الوقائع التّاريخيّة و نكران دور الاتّحاد السّوفياتي في الانتصار العظيم سنة 1945 أمر له قاعدة تاريخيّة و سياسيّة ما في دول البلطيق و رومانيا، حيث اختار كتّاب " التّاريخ " في الحلف الأطلسي أن يستندوا مباشرة ، كلما كان ممكنا، إلى الحركات المحلّيّة المتعاونة مع النّازيّة، و إظهار أنشطتها على أنّها نماذج تمثّل " النّضال من أجل الاستقلال " في مواجهة الاتّحاد السّوفياتيّ.
و قد وقعت مقاربة الوضعيّة بطريقة مختلفة في بولونيا، حيث من الصّعب جدّا ايجاد أسس للأطروحة القائلة إنّ التحرير لم ينقذ الشّعب البولوني من المجزرة الهتلرية. فإعادة توظيب التّاريخ الحديث وقع تنسيقها من قبل هياكل عموميّة منها المعهد البولوني للذّاكرة الوطنية. و كلّ الأنشطة تهدف إلى تجنّب التّنافر المعرفيّ بشكل يجعل سكّان أوروبا الشّرقيّة لا يستطيعون رؤية المعالم التاريخيّة و تذكّر تحريرهم من ألمانيا النّازيّة من قبل الجيش الأحمر، و هو أمر يعني ضمنيا أنّ روسيا هي العدوّ الأبديّ، و هي المعتدي.
فإعادة توظيب تمثّل الوقائع التّاريخيّة تشكّل جزء من هذه الحرب طويلة المدى، و هو مشروع معقّد جدّا. فمن المستحيل أن يبلغ هدفه خلال الشّهرين اللّذين يسبقان هذه القمة. و مع ذلك فهناك مجهودات أخرى يمكن القيام بها.
و في إطار الحرب الإعلاميّة تنشر وسائل إعلام أوروبا الشرقيّة بشكل متواتر وثائق عن تمركز الرؤوس النوويّة في منطقة كاليننغراد. فوجود هذه المنطقة باعتبارها جزء من مجال الفدراليّة الرّوسيّة يقع تقديمه كتهديد لوجود البلدان المجاورة. و على الجبهة الجنوبيّة، أوكل دور من هذا القبيل، في مسار تصعيد الشّعور بالخطر، إلى منطقة ترانسنستري. و هكذا، ترعب كاليننغراد شعوب البلطيق و بولونيا، فيما تستعمل منطقة ترانسنستري لبثّ الرّعب في نفوس الرومانيّين، و على أقل تقدير في نفوس البلغار.
الحرب الإعلاميّة أنجزت بشكل منظّم و احترافيّ. و بدأ كلّ شيء بضرورة إعداد الرّأي العام على إثر نشر منظومة "الدّفاع" المضادّة للصّواريخ في أوروبا الشّرقيّة.
و مع مسار تطبيع العلاقات بين الغرب و إيران، وجد مسؤولو العلاقات العامّة في الحلف الأطلسيّ أنفسهم مضطرّين أخيرا لقبول أنّ أنظمة الصّواريخ معدّة حصريّا لمواجهة " الخطر الروسيّ " المزعوم.
و تحاول بولونيا أن تلعب دورا رياديّا، في مناطق الشّمال و البلطيق، في سباق التّسلح في أوروبا الشّرقيّة. و تحاول رومانيا بدورها أن تأخذ المبادرة حول البحر الأسود. و لكن ذلك يعدّ أكثر صعوبة لأنّ تركيا تصرفت كقائد للتحالف المضاد لروسيا منذ ستة اشهر. و هي تركيا ذاتها التي أظهرت بعض الطّموحات الجيوسياسيّة.
إلاّ أن بوخارست تحاول أن تستغلّ الغياب التّامّ لثقة واشنطن في رجب طيّب أردوغان لتوفّر للبنتاغون خدمات أخرى. و يجسّد هذه المقاربةَ مبادرةُ إنشاء أسطول البحر الأسود بمشاركة الحلف الأطلسيّ الّذي سيكون ممثّلا من خلال دول ليست أعضاء في الحلف إلى حدّ الآن، و هي أكرانيا و جورجيا، و هو ما اقترحه وزير الدّفاع الرّومانيّ مينيا موتوك.
و كانت الاستعدادات للقمّة مراقبة بعناية من وزارة الخارجيّة الأمريكيّة. فقد زار مؤخّرا مساعد جون كيري، أونتوني بلينكن، عددا من دول أوروبا الشّرقيّة. و دارت لقاءاته التي جمعته بنظرائه في الشّرق حول نقطة واحدة، هي أنّه يتوجّب على الأعضاء القدامى في الكتلة الشّرقيّة أن يدعموا دون تحفّظ موقف واشنطن خلال القمّة، و خاصّة في ما يتعلّق بالإنشاءات التي يقيمها الحلف الأطلسيّ على جبهته الشّرقيّة و تمويلها من خلال ميزانيات الدّول المعنيّة.
و قد ادّعى بلينكن أنّ روسيا لديها نيّة استفزاز قوّات الحلف الأطلسيّ قبل القمّة. و للتّدليل على ذلك ذكّر بدوريّات القوّات الجوّيّة الرّوسيّة فوق بحر البلطيق. لكنّه نسي أن يعترف أنّ ما أثار القلق الرّوسيّ هو حضور السّفن الحربيّة الأمريكيّة التي من المحتمل أنّها خرقت معاهدة انتشار الأسلحة النّوويّة. لكن بالنّسبة إلى الأمريكيّين، يحسن في إطار الحرب الإعلامية عدم الحديث عن ذلك.
و قد تصرّف بلينكن بشكل يجعل رئيس الولايات المتّحدة يشعر بالارتياح في العاصمة البولونيّة. و من أجل أن تنظّم فرصوفيا القمّة في أحسن الظروف، فقد منعت التّظاهر خلال فترة هذا الحدث، بدافع الهاجس الإرهابيّ بالـتّاكيد.
كلُّ ذلك أنجز لضمان راحة سيّد أوروبا الجديدة الموالية لأمريكا، باراك أوباما. غير أنّ التكاليف الّتي أعلنتها رسميّا وزارة الدّفاع البولونيّة لتنظيم القمّة ستكون 40 مليون دولار، و هي معلومة يمكن أن تتسبّب في سوء تفاهم و تقود الشّعب البولونيّ إلى رفع مستوى التوتّر أثناء القمّة.
[1] « L’Otan fait arrêter le leader d’opposition polonais Mateusz Piskorski », Réseau Voltaire, 21 mai 2016.