يشكل ديك تشيني مشكلة حقيقية للرئيس جورج بوش، إلا أنها ليست من النوع الذي قد يتبادر إلى ذهنك. فهو ليس نموذجاً لنائب رئيس متسلط أو محافظ متزمت يسعى لفرض أفكاره على رئيس قليل الخبرة والدراية والسيطرة على قراراته. كلا إن مشكلة جورج بوش مع نائبه مختلفة عن ذلك تماما وهي تتجلى في إعلان ديك تشيني بكل صراحة ووضوح أنه لن يرشح نفسه للرئاسة بعد انقضاء فترة ولايته سنة 2008. والنتيجة أن بوش فقد خليفته على كرسي الرئاسة وهو ما يفسر ولو جزئياً لماذا يبدو الرئيس تائهاً في ولايته الثانية ومنفصلا عن المشاكل التي تواجهها البلاد.

وتأكيدا للمشكلة التي يعانيها بوش يقول المستشار الأسبق للرئيس كلينتون السيد دون بيير«لو كان للرئيس نائب أو أي شخص آخر عين من قبل ليكون خليفة له، لمنحه ذلك دوافع أقوى لتوسيع قاعدته السياسية وطرح سياسات تتناسب أكثر مع جناح الوسط في الحزب الجمهوري». بيد أن السيد بيير يستطرد أنه عندما ينظر المرء إلى نوع السياسات التي اختارها بوش أو تلك التي قرر عدم اختيارها سيدرك أن الرئيس «لا يفكر في التداعيات الكبرى» للسنوات الثلاث المتبقية في ولايته. ولا يمكن لمثل هذا الوضع إلا أن يؤدي إلى إطلاق يد بوش في انتهاج كل ما يبدو له صائباً من سياسات حتى لو تمخضت تلك السياسات عن إضعاف الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة، أو ولدت سخطاً لدى الفئات العريضة من الناس المتضررة من سياساته.

وإذا نظرنا إلى الأمر أكثر سيتبين لنا أن سياسة الإنفاق وتخفيض الضرائب التي اتبعها فريق بوش قد خرجت عن السيطرة على نحو مضحك. وستكون معجزة حقاً إذا لم تؤد تلك السياسات إلى انفجار في الاقتصاد بسبب الاعتماد المفرط على السوق أو ارتفاع أسعار المنازل خلال الثلاث سنوات المقبلة. ولك أن تتوقع الجهد الذي ستحتاجه عملية تصحيح هذه السياسات بحلول 2008 حتى يرجع الإنفاق والضرائب إلى المعدلات المعقولة التي كانا عليها في السابق. غير أن تلك المشاكل لم تكن لتبرز لو كان لبوش نائب سيخلفه حيث سينظر إلى إرثه كجزء من الإرث الخاص الذي سيخلفه الرئيس بوش ما سيحث نائب الرئيس على كبح جماح بوش والتقييد من حركته فيما يخص السياسات التي لا تحظى بقبول شعبي. حينها سيصعب تصور الرئيس بوش وهو ينتهج سياسات مالية خرقاء، وعلى الأقل سيصعب تصور ذلك بالنسبة لنائب الرئيس الذي لن يقف مكتوف اليدين إزاء ما قد يهدد فرص ترشيحه عن الحزب الجمهوري.

وفي كل ذلك يبدو بوش من خلال طريقة إدارته للشؤون العامة وكأنه في حملة انتخابية دائمة تماما كما كان يفعل الرئيس كلينتون. لكن في الوقت الذي كان فيه الرئيس كلينتون يخوض فعلا حملة انتخابية، فإن بوش يبدو وكأنه دخل لتوه في حملة ضارية ضد جون ماكين من كارولينا الجنوبية. ولحد الآن فإن ما يطبع الولاية الثانية للرئيس بوش، إذا ما استطعنا فعلا تحديد أي أجندة واضحة، هو التملق لذلك الجناح من الحزب الجمهوري الذي يجسد أقصى اليمين دون الالتفات إلى أي شيء آخر خارج ذلك الجناح المحافظ. فعندما تعلق الأمر بقضية تيري شيافو التي ثارت حولها ضجة كبيرة في الولايات المتحدة وحاول المحافظون التأثير على مجرياتها استيقظ بوش فوراً من فراشه ليعقد اجتماعا في منتصف الليل، أما عندما يكون الأمر متعلقا بقضية الطاقة فبالكاد يعقد حوله اجتماع مصغر في وضح النهار.

وبالنظر إلى ما تشهده أسعار البترول من ارتفاع صارخ فإنه أصبح واضحا وضوح الشمس أن البلاد تحتاج إلى بلورة استراتيجية شاملة من أجل التقليص من استهلاكنا للطاقة وتطوير أنظمة بديلة لإنتاج الوقود. لكن عندما توجه هذا الكلام إلى سعادة الرئيس فلا حياة لمن تنادي.

ولو قمنا اليوم بجولة حول أميركا فسنجد بلادا منشغلة كذلك بقضايا التعليم والتنافسية والرعاية الصحية ومعاشات التقاعد. ويزداد قلق الناس كلما طرحنا قضايا من قبيل: كيف سيعثر أبناؤهم على الوظائف الملائمة؟ وكيف سيخرجون إلى التقاعد بعد حياة مديدة قضوها في العمل؟ ثم من سيقوم بالاعتناء بكبار السن من الآباء؟ وبدلا من أن يضع الرئيس بوش خطة جديدة لمعالجة الاختلالات الناجمة عن العولمة المتنمرة والإجابة عن تساؤلات ومخاوف الناس إزاء ما يحمله المستقبل في ظل الغموض الذي يلف الحاضر، نجده في المقابل، أثناء ولايته الثانية، يطلق نفس تلك الخطة القديمة والتي باعتمادها على خصخصة نظام التأمين الاجتماعي، فإنها لن تسهم إلا في تغذية مخاوف الناس وتأجيج قلقهم حول المصير الذي ينتظرهم. وهو ما ينذر بفشل تلك الخطة القديمة.

أجل لقد كان بوش جسوراً عندما طرح مقترحا جيدا لإصلاح نظام التأمين الاجتماعي، لكنه لم يدفع بالمقترح إلى الأمام ولم يركز عليه بما يكفي حيث سرعان ما توارى خلف هوسه الشديد بتشجيع الناس للاستثمار في الحسابات الخاصة التي يريدها أن تكون بديلا عن التأمين الاجتماعي. هذا ولم يتصدر ذلك الإصلاح بالنسبة له قائمة الأوليات العاجلة للبلاد. لهذا فلو كان هناك نائب للرئيس يحاصر بوش لما حصل كل ذلك، ولو كان لبوش نائب للرئيس لما اتبع سياسة دفن الرأس في الرمل في مواقفه المعارضة لإجراء الأبحاث على الخلايا الجذعية والتغير المناخي ومراقبة تطور السكان وهي نفس الموافق التي بدأ أعضاء الحزب الجمهوري في جناح الوسط يربأون بأنفسهم عنها لأنها لا تتناغم مع مطالب القاعدة العريضة للحزب. وللتدليل على هذا الانقسام الذي بدأ يظهر داخل الحزب الجمهوري بسبب سياسات بوش المتشددة قام في الأسبوع المنصرم السيناتور الجمهوري بيتي دومينيشي أحد كبار المفاوضين حول قانون الطاقة بإبداء موقف معارض لبوش عندما أعلن أن رأي العلم واضح وأن التغيير المناخي يحدث بالفعل لذلك يجب القيام بشيء لمعالجة الأمر.

وإذا كان السيد بوش يحدوه الأمل في جعل الحزب الجمهوري يحظى بالأغلبية الدائمة في الكونجرس ويحافظ على استمرارية إرثه في الإدارة، فالأجدر به أن يطرح جملة من المقترحات لتوسيع دائرة الحزب، لا سيما والديمقراطيون يعانون في هذه الفترة من شح في الأفكار. لكن عوض أن يقوم بوش بالتركيز على إنجاز الأشياء التي ستستفيد منها الطبقة الوسطى العريضة في البلاد، نراه في المقابل لا يحيد عن ولعه الشديد بالجناح اليميني في الحزب الجمهوري. هذا ولا يسعنا في حال إصرار بوش على توظيف رأسماله السياسي بنفس الطريقة الرعناء إلا أن نقول له ذلك شأنك. لكن تصوروا لو كان لبوش نائب يتطلع إلى خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2008، ألا تعتقدون أن هذا النائب كان سيقول للرئيس: "ماذا تفعل أيها الرئيس؟ وإلى أين تقودنا بسياساتك تلك؟ وكيف سيتم ترشحي للانتخابات المقبلة وأنت بانتهاجك تلك السياسات المنفصلة عن هموم الناس اليومية كمن يفرض عليَّ الدخول إلى عش الدبابير؟".

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)