أراد الرئيس الأميركي جورج بوش، في خطابه المتلفز الأخير، محاربة الشك باليقين. غير أن المشكلة هي أن الشكوك التي بدأت تساور مواطنيه واقعية في حين أنه لا يملك رداً عليها سوى “يقينه”. لقد تميّز هو وطوني بلير باختراع “حجة سياسية” فريدة من نوعها: القناعة العميقة والصادقة والذاتية بالصواب. وقد ردد كل منهما، غير مرة، أنه ممتلئ ثقة بصحة ما يقدم عليه. يفعلان ذلك من دون أي مبالاة إلى أن كل يوم يمر، كل يوم، يُظهر أنهما من أكثر زعماء العالم كذباً ومراوغة.

إذا كان، في الأسابيع الأخيرة، من حدث حارب الشك باليقين، فهو نشر «مذكرة 10 داوننغ ستريت». فهي تحسم أن البريطانيين كانوا عارفين أن قرار الحرب على العراق متخَذ قبل أشهر من شنها، لا بل قبل أشهر من مسرحية التوجه إلى الأمم المتحدة. أكثر من ذلك تقول المذكرة إن الانطباع المتولّد عن اجتماع بين بوش وبلير يفيد بأنه من الضروري بناء الوقائع والمعطيات والمعلومات الاستخبارية من أجل خدمة قرار متخَذ سلفاً!

مَن يترددْ في القول إن بوش يكذب يفضلْ أن يرى في الخطاب المتلفز تمريناً في العناد وفي الإصرار على عزل النفس عن المجريات الفعلية. لقد كرّر الرئيس الأميركي المعزوفة المشروخة: لقد شُنت الحرب على العراق كجزء من الحرب على الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في 11 أيلول. كان لا بد للأمة من أن ترد دفاعاً عن نفسها. والقرار الحكيم، الذي لا قرار غيره، هو نقل المعركة إلى العدو خاصة إذا كان خطيراً جداً أو متجهاً ليصبح كذلك. كانت الحرب اضطرارية، واستمرارها إلزامياً. كيف لا والمشروع يتقدم رغم الصعوبات، والنجاحات تتوالى رغم العوائق. إن ما حصل ويحصل هو تعزيز للأمن الوطني واختبار للإرادة والشجاعة. والعراق الجديد هو في الأفق القريب، لذا لا مجال للانسحاب ولا لوضع جدول زمني ولا لتغيير الخطط والاستراتيجيات. إن الصبر قدر الأميركيين والتصميم ميزتهم في هذه المنازلة.

يطرد حشدُ الأضاليل الجديد حشدَ الأضاليل السابق. ويصبح واضحاً، في هذا السياق، أن الصبر والتصميم هما قدر بوش وميزته في مسعاه إلى إقناع مواطنيه، والآخرين، بالتخلي عن شكوكهم وتبني قناعاته الحميمة.

لم يكن توقيت الخطاب عبثياً. ولا علاقة له بالتطورات العراقية حصراً وإنما بانعكاساتها الأميركية. فبوش يقرأ استقصاءات الرأي ولو أنه يرفض لها أن تتحكّم بسياسته. وهي تقول، يوماً
بعد يوم، إن التأييد الشعبي لما يقوم به في العراق يتراجع، وإن أكثرية باتت ميالة إلى التشكيك بالحرب من أساسها. ومع أن عوامل أخرى تتدخل في زيادة تدهور مكانة الرئيس، وعلى رأسها، طبعاً، يمينيته الاقتصادية الاجتماعية المتطرفة، فإن “المأزق” العراقي حاضر في تعزيز الصورة السلبية. ولا يمكن للرئيس إلا أن يلاحظ التصدع في صفوف قيادة الحزب الجمهوري، وهو تصدّع شجّع البعض على الانضمام إلى الديموقراطيين من أجل إرغام الإدارة على تقديم أجوبة واضحة عن أسئلة محرجة. إن النواب والشيوخ الجمهوريين الذين عززوا مكانتهم في الكونغرس قبل شهور يدركون أن الموجة المتراجعة لشعبية الرئيس قد تجرفهم في الانتخابات النصفية بعد حوالى سنة ونصف.

إذا كان بوش يتعاطى باستعلاء مع استقصاءات الرأي، وهذا حقه الديموقراطي، فإنه لا يسعه تجاهل استفتاء من نوع آخر. إن قيادة الأركان تضعه في أجواء مقلقة ذات صلة بالتراجع الواضح في عدد المتقدمين للتطوع في الجيش.

هذا أمر لا يمكن للمؤسسة أن تتجاهله وهي تخوض حرباً في العراق، وتعجز عن تأمين الاستبدال الدوري للجنود، وتخشى من نوايا بعض الحلفاء الانسحاب، وتقاتل في أفغانستان، وتحفظ وجوداً في مئات القواعد حول العالم، وتراقب بقلق احتمال انفجار أزمة جديدة مع كوريا الشمالية أو إيران.

لقد اضطر وزير الدفاع دونالد رامسفيلد إلى الاعتراف بهذه الحقائق مضيفاً بأسلوبه الساخر الخاص به أن الحرب في العراق قد تمتد لسنوات وربما تصل إلى اثني عشر عاماً. ولاحظ المراقبون أن هذا التقدير، المرفق بالكشف عن اتصالات مع “متمردين مسلحين” عراقيين، يتناقض تماماً مع التفاؤل الذي أبداه نائب الرئيس ديك تشيني الذي يميل إلى تفسير كل تصعيد في أعمال العنف والمقاومة بصفته الدليل الحسي والملموس على أن “التمرد دخل في النزع الأخير”. إنه “نزع أخير” غريب بعض الشيء ما دام سيمتد لعقد من الزمن ويفرض حواراً مع... محتضرين!

التناقض بين أركان الإدارة يشمل عناوين كثيرة. منهم من يقول إن قوات الأمن العراقية تصل قريباً إلى 160 ألف جندي. ومنهم من يذكر رقماً أقل أو أكبر، فضلاً عن أن أحداً منهم لا يتوقف عند مستوى التدريب ولا عند تقارير الضباط الميدانيين أو بعثات التحقق، التي تقدم صورة أكثر سوداوية.
ويطال التناقض، أيضاً، تعريف نقطة “انتهاء المهمة”. يحددها بوش مرة ب“التوصل إلى بناء عراق ديموقراطي مسالم”، ويحددها غيره ب“التوصل إلى حيث يمكن للعراقيين الدفاع عن بلدهم ضد الإرهاب”... والفرق هائل بين تعريف وآخر، خاصة أن الثاني يسمح، في أي وقت، بتمرير الانكفاء تحت ذريعة أن الانتصار تحقق ولا داعي للبقاء.
لم يضف خطاب بوش أي جديد يفيد في حسم هذه التباينات. ولقد كان لافتاً أنه تحدث في الذكرى السنوية الأولى لتسليم “السيادة” إلى العراقيين، وبعد أشهر على الانتخابات، وفي عز المشاكل حول كتابة الدستور، وعشية انتهاء المهلة المحددة لذلك “منتصف الشهر القادم”، وقبل أشهر من استفتاء على دستور دائم ثم انتخابات نيابية جديدة.

واللافت في ذلك أن الرئيس لم يتوقف، كما يجب، أمام قصور هذه العلاجات عن تقديم حلول شافية، لا بل عن دور هذه المحطات في زيادة التوتر. ومع أنه امتدح كثيراً الانتخابات العراقية فإن السيد علي السيستاني فاجأ الجميع، قبيل الخطاب، بدعوته إلى إدخال تعديل جذري على القانون الانتخابي من أجل جعله أكثر قدرة على تمثيل الأطياف العراقية كلها. بكلام آخر فإن دعوة السيستاني هي اعتراف متأخر بأخطاء القانون السابق، وبضعف التمثيل الناجم عنه، وبالتالي، بقدر من مشروعية التصعيد الذي جا رداً على الاستبعاد.

ناقش الإعلام الأميركي خطاب بوش. فعل ذلك على قاعدة الانقسام المعروفة بين منتقدي إدارة الحرب والمدافعين عنها. ولكنه فعل ذلك، أيضاً، على قاعدة الخجل الذي يميّز وسائل الإعلام المركزية والذي يحول دونها ودون أن تمارس دورها الرقابي المفترض. ولكن في غابة التعليقات هذه تميّز واحد كتبه جاك مايلز في “لوس أنجليس تايمز”.

لقد رفض الكاتب تعداد القتلى الأميركيين فقط، وحاول بعملية حسابية بسيطة، تعداد الضحايا العراقيين. وصل إلى أرقام مذهلة إذا أخذ بالاعتبار الفرق السكاني بين البلدين. ورأى أن العراقيين يعيشون صدمة مروعة لأنهم يتعرضون شهرياً، ونسبياً، لما يوازي مرتين أو ثلاث مرات ما تعرض له الأميركيون مرة واحدة في 11 أيلول!

ما لم يقله مايلز بالوضوح الكافي هو أن هذا هو المعنى الوحيد لاستراتيجية بوش القاضية بنقل الحرب إلى العدو أو إلى من يعتبره عدواً. إن عشرات آلاف الضحايا العراقيين هم، في رأي الإدارة، ثمن معقول جداً من أجل أمن المواطن الأميركي. لكن الناقص في هذه الرواية هو أن العراقيين لم يهددوا يوماً أمن هذا المواطن الأميركي. والناقص، أيضاً، هو أن هذا المواطن قد لا يكتشف الحقيقة إلا إذا ارتفع التهديد الموجّه لأمن جنوده المحتلين.

مصادر
السفير (لبنان)