محمود أحمدي نجاد. إن من يبحث عن هذا الاسم في وسائل الإعلام التي غطت الانتخابات الإيرانية في مراحلها الأولى لن يصادفه كثيرا. فإذا حصل فإنه أقرب ما يكون الى اسم شخص يثير الفضول لأنه يعتبر الانتخابات مناسبة للظهور والكلام مدركاً انه لا يملك أي حظ فيها.

تغير الوضع بعض الشيء عند إعلان نتائج الدورة الأولى عندما حل نجاد ثانيا، بفارق 400 ألف صوت فقط، وراء هاشمي رفسنجاني. إلا أن الطبع غلب التطبع فقيل إن المفاجأة ستعيش أسبوعاً ثم تعود المياه الى مجاريها، ويكون ما يجب أن يكون، أي يفوز رفسنجاني بالسباق الرئاسي.

إلا أن الانقلاب حصل فبات على الإعلاميين الاعتذار والتغني في إيجاد الصفة المناسبة للحدث: صدمة، فزلزال، مفاجأة، الخ...محمود احمدي نجاد هو الرئيس الإيراني الجديد. بعد انتخابات شهدت إقبالا معقولا وبأكثرية ساحقة قاربت 62 في المئة. أول ما قيل فيه هو أن فوزه يعيد التناغم والوحدة الى المؤسسات الحاكمة في إيران: فهو رجل محافظ، والمرشد علي خامنئي ميال الى المحافظين.

وكذلك البرلمان معهم، والهيئات الأخرى غير المنتخبة فضلا عن «حرس الثورة» و«الباسيج». لقد استكمل الثأر من المرحلة الخاتمية التي شهدت صراعا في قمة السلطة، ورفض الناخبون رفسنجاني الذي وان لم يكن رمزا للصراع فهو على الأقل، رمز لقدر من التعددية.

لم يحصل ذلك فرضاً. لقد كانت الخيارات متاحة. ويكفي أن تسفر الانتخابات عن نتيجة غير متوقعة حتى تكون استمدت شرعية ما. كذلك، فإن دعوات المقاطعة لم تثمر. وكما راهن البعض على أن نسبة الإقبال المرتفعة تزيد حظوظ الإصلاحيين تبين أن الرهان في غير محله.

سواء عندما حل مصطفى معين في المرتبة الخامسة في الدورة الأولى أو عندما تبين الفوز الساحق لنجاد في الثانية.قرر المواطنون الإقدام على ما يعتبرونه «تجديد شباب» الثورة بعد التهديد الذي مثلته محاولة الخاتمية، وهي محاولة فشلت في تحقيق وعودها وانتهت الى توليد إحباطات أكثر مما أثارته من آمال.

وكان رفسنجاني ضحية هذه الرغبة، ولو صعبة التحقيق، في «تجديد شباب» الثورة لأنه مثل، بالنسبة الى الناخبين، قدراً من الكهولة غير المرغوبة. انه احد أركان المؤسسة الحاكمة، وأحد العارفين بكواليس السلطة. إلا انه متهم بالمبالغة في الوقائية والبراغماتية، لا بل بصرف النفوذ، وفي حين يقدم نجاد صورة الرجل الذي لم يمانع في الاستفادة منها.

لعب الفائز كثيراً على صورته المقربة من المواطن البسيط. فهو بسيط في ملبسه، ومسكنه، وتصرفه، وخطابه. وإذا كانت حملته اعتمدت الأسود والأبيض واختفت عنها الألوان المزركشة، فلأنه على الأرجح كذلك. أي انه ينتمي الى تراث إيراني سابق حتى للإسلام يرى الدنيا بمنظار «مانوي» يضع الخير في كفة والشر في كفة أخرى.

ولمن يرغب في التبسيط يمكن القول إن رفسنجاني هو شمال طهران في حين أن نجاد جنوبها. الشمال غني، يطالب بالإنتاج، يريد تحرير الاقتصاد والتجارة، يعانق البازار ومصالحه، يتمسك بالتقاليد الدينية. قد لا يكون معادياً للثورة، إلا انه يقدم قراءة لها تقول انه آن الأوان للانتقال منها الى الدولة.

الجنوب فقير، مكتظ بالسكان، نساؤه متشحات بالسواد، يطالب الثورة أن تكون في خدمته، قاتل في سبيلها ودفع مئات الآلاف من الشهداء، يتلقى الآثار الهائلة للازمة الاجتماعية، يعاني من البطالة وتدهور مستوى المعيشة. «لقد حدد الفقر ميول الناخبين وخيارهم»، قال ناطق رسمي نرويجي. وثمة إجماع على هذه الملاحظة.

فالمواجهة دارت فوق أرضية أصولية ومحافظة، إلا أنها دارت بين حاسيتين اجتماعيتين متباينتين: رفسنجاني هو أحد أثرى أثرياء إيران، نجاد من أصول متواضعة ويقدم نفسه بصفته صوتاً للمحرومين. وبما أن هؤلاء أكثر عدداً، وبما أنهم تماهوا مع مرشح، فقد دفعوه الى الفوز.

روجت تفسيرات عديدة للنتيجة: تزوير، شراء أصوات، تدخل «حرس الثورة»، تعميم «كلمة سر»، الخ... قد يكون ذلك كله صحيحاً، ولكن يبقى الأصح أن هناك من تجاوب بحماس. لذا فإن الانشطار الإيراني الحالي لا يبين، في القريب العاجل قيام رد فعل «إصلاحي» عنيف يمهد لتنظيم انتفاض جديد على السلطة.

لقد تعرض التيار الإصلاحي إلى نكسة جدية عند إجراء الانتخابات النيابية. وقع خلاف بينه وبين خاتمي. ولما تأكد منع حوالي ألفي مرشح من حقهم في المشاركة لم يهب الشارع الى نجدتهم. بدا وقتها وكأن المواجهة هي بين نواة محافظة صلبة وممسكة بالأجهزة ومراكز القوى، وبين تيار هلامي يتمتع بقاعدة شعبية واسعة ولكنه لا يملك العصب الكافي للدفاع عن مشروعه.

هذا إذا كان مشروعه واحدا. ومنذ ذلك الوقت والإصلاحيون يخوضون قتالا تراجعيا ظهرت آثاره في النتائج غير المقنعة التي حصل عليها القريبون منهم في الانتخابات الأخيرة.السياسة التي سيتبعها نجاد لمعالجة المعضلات الداخلية ليست واضحة. وليس مستبعدا ان يجد نفسه في موقع العاجز عن الوفاء بوعوده، أو في موقع المضطر الى سلوك نهج لا يلبي مصالح المستضعفين.

ومن الواضح، أن الأنظار ستتجه إليه لمعرفة توجهاته في ما يخص السياسة الخارجية.لا بد من القول، هنا، أن الملفات الأساسية في هذا المجال لم تكن يوماً في يد الرئاسة حصراً. ولكن في المقابل، يمكن لفوز نجاد الواضح أن يسلح القيمين على هذه السياسية بحجة قوية تقول إن الثنائية انتهت .

وانه ليس صحيحاً على الإطلاق أن إيران تنقسم إلى رئيس شعبي ومنتخب لا يملك صلاحيات، والى مرشد غير شعبي ولا منتخب ولكنه يمارس الصلاحيات كلها.الملف النووي هو، قطعاً، ابرز عناوين السياسة الخارجية الإيرانية. ومن المعتقد أن مواقف طهران لن تتغير (مدخل إجماع وطني) وان كان نجاد ميالا الى دعم الوجهة التي تطالب بالتشدد مع الأوروبيين.

وكذلك، فإن تنظيمات مثل «حماس» و«الجهاد» و«حزب الله» تبدو مرتاحة الى فوز نجاد. ليس ذلك لأنها كانت على علاقة سيئة بإيران الخاتمية، بل لأن وحدة الموقف الإيراني المستعادة توفر لها طمأنينة اكبر وتجعلها أكثر تفاؤلاً بالقدرة على مواجهة تحديات المرحلة المقبلة.

يبقى الموضوع الأساسي المتعلق بالوضع في إيران، وربما الخليج. لقد تميز نجاد عن غيره من المرشحين بأنه ذكر مواطنيه بمطالع الثورة. ولكن من يعد بالذاكرة الى تلك الأيام ينتبه إلى أن عراق صدام حسين، بإقدامه على الحرب، استوعب الزخم الثوري الإيراني. وإذا كان صحيحاً أن هذا الزخم سيشهد تجدداً.

وإذا كان صحيحاً أن هذا التجدد لن يجازف بتعكير العلاقات مع دول الجوار، فإن السؤال الذي يبقى مطروحا هو ذلك الخاص بالتوازنات الاستراتيجية الكبرى في هذه المنطقة الحساسة. ما معنى تجديد «شباب الثورة» في ظل العراق المغيب، أو بالأحرى، في ظل العراق الذي يعيش احتلالاً أميركياً متعثراً؟

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)