لم يترك الردّ الإيضاحي على الليبراليين العرب، الذي جاء من باريس، مكاناً في خارطة العالم للعقلاء المتحضرين الواقعيين، سوى واحداً من اثنين: إما في الصفوف التابعة لليبراليين الأميركيين أو في الصفوف التابعة للديمقراطيين الفرنسيين! إما في الصفوف التابعة للحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي، أو الحزبين البريطانيين العمالي والمحافظ، وإما في الصفوف التابعة للحزبين الفرنسيين الديغولي والاشتراكي! فبعد المقدمة الودودة المتفهمة لمعاناة الليبراليين السوريين والمنحازة إليهم قولاً واحداً، استفاض الردّ في النصح والإرشاد بصدد الفوارق بين الديمقراطية والليبرالية، مقترحاً مراعاة الاعتبارات المتعلقة بالأولى، لكنه أعطى موافقته المسبقة بتشكيل حزبهم الليبرالي على الطريقة الأنكلوسكسونية، فكأنما هو يقول أننا في جميع الأحوال، وأيّاً كانت سبلنا، سنبقى في معسكر المتحضّرين وفي نطاق العالم الواقعي المعاش! أما عن الآخرين غير المتحضرين، غير العقلاء وغير الواقعيين من قوميين وإسلاميين ويساريين، فقد أوصى الردّ بتحمّل وجودهم وغلاظاتهم، على اعتبار أن اللعبة، سواء أكانت ليبرالية أم ديمقراطية، لا تكتمل ولا تتحقق من دونهم، تماماً كما نصح بريجنسكي بقبول الجريمة المنظمة والمجرمين المنظمين كضرورة داعمة من ضرورات الحياة على الطريقة الأميركية!
استخلاص دروس النجاح والفشل!

ليس في الردّ على الليبراليين العرب، المرسل من باريس، أية إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى الدور الرئيس للفرانكوفون والأنكلوسكسون في الدمار الشامل الذي آلت إليه أوضاع البشرية عموماً والعرب والمسلمين خصوصاً، سواء في مراحل الاستعمار المباشر، أم في مراحل الاستعمار غير المباشر، أم حالياً في مرحلة العودة إلى الاستعمار المباشر، حيث أكثر من ثلثي مساحة المشرق العربي وأكثر من نصف سكانه تحت الاحتلال العسكري الليبرالي المدمّر! وهكذا فإن المتجاهلين قد يجاملوننا، وقد يحزنون ويتألمون لأحزاننا وآلامنا، لكن ليس إلى الحدّ الذي يقطعون معه صلاتهم بالحضارة وبعالمها الواقعي المعاش، فأمام خطر انقطاع هذه الصلة لا يترددون في التخلي عن رصانتهم العلمية، وقناعاتهم التاريخية، بل عن أهلهم وأصدقائهم، ورفاقهم وأساتذتهم، وأنا أعرف ما أقول وأعنيه!
يقول الدكتور سمير أمين: تستدعي التطورات “العالمية” قراءة نقدية لما أسميه:“ التنمية الشعبية المتمحورة على الذات”، فالشروط والصيغ المتعلقة بمثل هذه الموضوعات تتعرض إلى تحوّل دائم، والرأسمالية تتغيّر وتتكيف مع التحديات التي تفرضها طبيعتها نفسها، والتي تفرضها كذلك انتفاضات الشعوب، ومن المستحيل اختزال التنمية وفك الارتباط “مع الرأسمالية العالمية” في معادلات جاهزة وصالحة لجميع الأمكنة والأزمنة، بل يجب إعادة النظر في هذه المفاهيم استناداً إلى دروس التاريخ وتحولات العولمة الرأسمالية، وقد طرحت جميع الثورات الشعبية على مدى ثلاثة أرباع القرن مسألة التنمية المتمحورة على الذات وفك الارتباط “مع شبكة الرأسمالية الدولية” وشهدنا ذلك في التجارب الاشتراكية وفي حركات تحرر شعوب العالم الثالث، واليوم لابد من مراجعة نقدية لتلك المحاولات التاريخية واستخلاص دروس النجاح والفشل، وذلك بالارتباط الوثيق مع الجوانب الأخرى من إشكالية تطوير القوى المنتجة، والتحرر الوطني، والتقدم الاجتماعي، وديمقراطية المجتمع.

وهكذا فإن سمير أمين، الذي يعيش بدوره في أوروبا منذ زمن طويل، لم يقطع مع حركات التحرر الوطني التي انكفأت اليوم، بل دعا إلى استخلاص الدروس من فشلها ونجاحاتها، تمهيداً لنهوضها القادم الكبير والمؤكد، ودعا إلى القطع مع شبكة الرأسمالية الدولية، وهو ما لم تفعله حركات التحرر في الماضي، وإلى التنمية المتمحورة حول الذات، استناداً إلى حركات التحرر الوطني، والقوى المنتجة، والتقدم الاجتماعي، وديمقراطية المجتمع وليس ديمقراطية الأنكلوسكسون والفرانكوفون!

ما هو سابع المستحيلات؟
أعود فأنقل متعمداً عن الدكتور أمين قوله: إن رأس المال العابر للقوميات هو رأس مال نادي الثلاثة: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان! أما بلدان الشرق والجنوب فهي مستثناة من دخول هذا النادي، وخارج النادي لا نجد سوى بورجوازيات كومبرادورية، أي قنوات توصيل لسيطرة رأس المال المتعدّي للقوميات، وهذا ما نحن عليه في اللحظة التاريخية الراهنة. إن سيطرة رأس المال المعولم هي مرحلة إمبريالية جديدة جماعية تضم الثلاثية “الولايات المتحدة وأوروبا واليابان” وفي هذا المشروع ما بعد الكولونيالي تندرج صيغة الهيمنة الأميركية، ولهذا يغدو من سابع المستحيلات اليوم إدارة النظام الإمبريالي الجديد سلمياً، بواسطة السيطرة الاقتصادية فحسب، وسيغدو ذلك أكثر استحالة في المستقبل، ولذلك سوف يصبح اللجوء إلى العنف السياسي، ومن ثم التدخل العسكري، حاجة ملحة لتلبية مهام تفعيل هذا المشروع الليبرالي، وهذا ما يجعل الإمبريالية الجماعية بحاجة ملحة لهيمنة الولايات المتحدة، فهذه الدولة هي الوحيدة القادرة على القيام بمهام القيادة العسكرية لتدخلات الشمال في الجنوب، وبالطبع يدفع حلفاء واشنطن ثمناً لخدماتها على شكل سندات تشكل جزءاً لا بأس به من مزاياها الاقتصادية، أما مشروع الولايات المتحدة في السيطرة العسكرية على الكرة الأرضية فيهدف إلى تمويل خط تدفق الرساميل إليها! لقد غدا النمط الإمبريالي مرادفاً لتنظيم نوع من الفصل العنصري على المستوى الدولي، وبات إفشال هذا المشروع عاملاً أساسياً لتحرك ضروري مناهض في الشمال والجنوب..الخ

لقد دعا سمير أمين دول الشرق والجنوب إلى تنمية متمحورة على الذات، وإلى توفير شروط أساسية خمسة تحقق انفصال التنمية الوطنية عن التبعية:1- أن تؤمن سياسة الدولة فائضاً زراعياً متطوراً وبأسعار ملائمة 2– تحقيق وجود رسمي لمؤسسات مالية وطنية يضمن استقلاليتها النسبية إزاء تدفق رأسمال الشركات متعدّية الجنسية 3– السيطرة المحلية على سوق مخصصة للإنتاج الوطني أساساً 4– السيطرة المحلية على الثروات الطبيعية مع قدرة الدولة على استغلالها أو الاحتفاظ بها كاحتياطي 5– السيطرة المحلية على التكنولوجيا، بمعنى إمكانية إعادة إنتاجها وإن كانت مكوناتها مستوردة!
لقد أوردت هذه المقاطع الطويلة من آراء الدكتور أمين لأنني أعرف أن مصدر الردّ على الليبراليين العرب يعرفها ويتجاهلها، وحبذا لو شرح لأصدقائه السبب الذي جعله يتخلى عنها ويتجاهلها!