هل ثمة رابط بين نتائج لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع الرئيس الأميركي جورج بوش، وبين تقرير ديتليف ميليس حول اغتيال الشهيد رفيق الحريري؟ في الظاهر لا يوجد رابط على الإطلاق، أما في العمق والجوهر فإن الحدثين يندرجان في سياق سياسي واحد. الولايات المتحدة تريد تطويع الفلسطينيين ليقبلوا تبعيتهم لإسرائيل وليصبحوا بالتالي جزءا من المخطط الأميركي للسيطرة على الشرق الأوسط. والولايات المتحدة تريد تطويع سوريا من أجل الهدف نفسه.

إزاء الفلسطينيين، تستعمل الولايات المتحدة لغة قاسية مغلفة بالدبلوماسية، لأن الرئيس محمود عباس يقدم نفسه ومشروعه على أنه يلبي المتطلبات الأميركية. أما إزاء السوريين فإن الولايات المتحدة تستعمل لغة سياسية خالية من أية دبلوماسية، وهي لغة يتقنها جون بولتن المندوب الأميركي في الأمم المتحدة، لأن سوريا ترفض أن تكون أداة في تنفيذ السياسة الأميركية في العراق ولبنان وفلسطين. إنها لا تستطيع مقاومة هذه السياسة، ولا تستطيع خوض معركة ضدها، ولكنها لا تندفع لتكون أداة من أدواتها التنفيذية، كما تلاعب في ذلك واشنطن.

وإذا توقفنا قليلا أمام نتائج زيارة الرئيس الفلسطيني للبيت الأبيض، نجد أن هذه الزيارة قد أسفرت عن الأمور التالية:

- إن المهمة الأساسية المطلوبة من الرئيس الفلسطيني ليس التهدئة الأمنية، بل ضرب المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وهو ما يسميه الرئيس بوش «ضرب الإرهاب، وضرب البنية التحتية للإرهاب، تماما كما يطالب بذلك آرييل شارون رئيس وزراء إسرائيل. قال بوش في المؤتمر الصحافي المشترك مع عباس» يجب أن يبدأ طريق التقدم بالتصدي للتهديد الذي تشكله العصابات المسلحة على فلسطين ديمقراطية، وعلى السلام الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين». وينطوي هذا الموقف على القول ضمنا إن الاحتلال الإسرائيلي لا يشكل أي خطر على الفلسطينيين.

- طور الرئيس بوش هذا الموقف المعروف، ونقله من الحيز النظري إلى الحيز التنفيذي، حين أعلن أنه سيرسل مندوبا أميركيا خاصا ليشرف على عملية اقتلاع البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية. قال «سوف أعين في الأيام القليلة القادمة، المنسق الأميركي الجديد، الذي سيتولى مساعدة الرئيس عباس والسلطة الفلسطينية على القيام بمسؤولياتها في وضع حد للهجمات الإرهابية، وتفكيك البنية التحتية للإرهاب».

- ألغى الرئيس بوش التزامه بالوصول إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل، خلال فترة حكمه التي تنتهي في العام 2009، وأشار إلى أن هذا الهدف قد يتحقق في هذه الفترة وقد لا يتحقق، ويعتمد ذلك على تقدم المفاوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. قال إنه «غير واثق ان ذلك الهدف يمكن تحقيقه قبل مغادرته البيت الأبيض».

- رفض الرئيس بوش الطلب الفلسطيني بالتدخل والضغط على إسرائيل لتنفيذ ما التزمت به من اتفاقات (شرم الشيخ)، وقال لعباس بوضوح إن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تضغط على أحد، وأن الأمر كله يعتمد على الفلسطينيين والإسرائيليين معا، وأن الإدارة الأميركية تدعم فقط ما يتوصل إليه الطرفان من اتفاق.

وخلاصة هذه النقاط الأربعة، إعلان البيت الأبيض أنه يدعم السياسة الإسرائيلية التي ينفذها شارون، وأنه يطلب من عباس الانسجام معها، وهو ما يحقق بندا أساسيا من بنود الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط، عبر تحقيق هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين. وخلاصة الخلاصة في هذه النقاط الأربعة، أنها تنهي ما يسمى خطة «خريطة الطريق» التي تحظى برعاية اللجنة الدولية الرباعية. وهنا يجب أن نلاحظ أن خريطة الطريق وضعت مواعيد لعملها تنتهي مع انتهاء هذا العام، أي بعد ما يقارب الشهرين، ولا يعرف أحد حتى الآن ماذا سيحل محلها.

ولكن الأمر الغريب إلى درجة تثير الدهشة، إصرار المسؤولين الفلسطينيين بعد انتهاء المفاوضات على الإشادة بنتائجها، والقول بأنها كانت ناجحة. لماذا؟ لأن واشنطن نصحت إسرائيل بوقف الاستيطان «غير الشرعي»، وطلبت من إسرائيل أن لا تعارض مشاركة حركة حماس في الانتخابات.

وجنبا إلى جنب مع هذه المعركة الأميركية ـ الفلسطينية، تحتدم المعركة الأميركية ـ السورية، بعناوين مختلفة، بالرغم من الهدف الواضح الذي يجمع بين المعركتين، أي تأمين الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط. لقد اندلعت المرحلة الجديدة من هذه المعركة بعد تقرير ميليس حول اغتيال الشهيد الحريري، ولكن من يتابع التصريحات الأميركية يلاحظ أن آخر ما تهتم به الولايات المتحدة هو الشهيد الحريري نفسه. إنها ترى في اغتياله مناسبة لفتح معركة مع سوريا (التي اتهمت قبل أن يبدأ التحقيق الدولي)، وحين جاء تقرير ميليس متضمنا إشارات لاتهام سوريا، ثارت شهية الأميركيين من جديد، وبدأوا بتصعيد الحملة ضد سوريا، فقد وجدوا فيه ما يناسب حملتهم، ليس من أجل الكشف عن قتلة الحريري الحقيقيين، بل من أجل منع تسرب المقاتلين من الحدود السورية (كما يقولون) إلى العراق، وكذلك من أجل منع دعم سوريا للفصائل الفدائية. ويعتقد كثير من المحللين السياسيين أن قبول سوريا لهذه المطالب السياسية الأميركية سيخفف حدة الضغط الأميركي ضدها، وعندها سيغيب موضوع الكشف عن قتلة الحريري، وتتوه العملية كلها في سراديب التحقيق المرشح لأن يطول لسنوات، كما أعلن ذلك ميليس نفسه.

إن الحملة الأميركية ضد سوريا، تترافق مع حملة إسرائيلية مماثلة. وتتميز الحملات الإعلامية الإسرائيلية بأنها تكشف في بعض الأحيان ما تحرص الولايات المتحدة على إخفائه تحت ستار من العبارات العامة. فنحن نقرأ في الحملة الإسرائيلية مقالا بقلم تسفي بارئيل (هآرتس 23/10/2005) يحلل فيه تقرير ميليس ويقول «إن التفاصيل التي يتضمنها تقرير مليس ليست ناضجة بعد لتقديم لائحة اتهام ضد سوريا، أو ضد مسؤولين سوريين ولبنانيين، لأن التقرير تضمن عددا مبالغا فيه من التلميحات والتقييمات والاستخلاصات، والقليل من المعلومات».

وتساءل بارئيل حول السبب الذي دفع ميليس إلى تقديم تقريره قبل استكمال التحقيق، وقال: إن الإجابة على ذلك موجودة في واشنطن. وأضاف «إن واشنطن تحتاج إلى مواد إدانة ضد سوريا، حتى لو كانت هذه المواد مؤقتة وغير كاملة، وذلك على خلفية مساعدة سوريا للارهاب في العراق».

ولفت بارئيل إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى التقرير من أجل الدفع باتجاه فرض عقوبات على سوريا، من خلال مجلس الأمن الدولي».

هناك بالطبع مقالات إسرائيلية أخرى تهاجم سوريا وتدينها على الطريقة الأميركية، ولكن الأمر لا يخلو من بعض العقلاء الذين يدرسون الأمر بروية، ويستطيعون رؤية الحقائق من خلف ستائر التغليف الأنيقة.

وهناك أيضا في ساحة الإعلام العربي، من يشعر بالسرور لأن سوريا في أزمة، وإلى حد التصفيق والتهليل للحملة الأميركية ضدها. وهؤلاء نتمنى عليهم أن يقرأوا شهادة هذا الكاتب الإسرائيلي، لعلهم يتمثلون بها، ما داموا يرفضون الإصغاء إلى مواقف تعتبر الحرص على الوطن، المقدمة الضرورية لأي موقف سياسي.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)