حين نستخدم تكراراً أنه ( عصر الوقاحة بلا منازع ) كنّا نخشى الاتهام أن هذا الاستخدام فيه مبالغة وتهور في رسم سمات هذا العصر !

لكن حين تقف الدولة ( العظمى ) الأولى ومعها اثنتان من ( أعظم ) دول العالم إلى جانبك ، وتسعفانك في إثبات مقولتك ، فلا يجب أن تخشى التهور أو لوم لائم .

أليس ما قاله – تباعاً – وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وأمريكا في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن ، سواء في مداخلاتهم ، أو في ردّ وزير خارجية بريطانيا على الوزير السوري ، أليس في أقوالهم إثبات جلي على صحة المقولة بأنه ( عصر الوقاحة بلا منازع ) ؟

عن أي ( هولوكوست ) يتكلمون ؟ .... إنهم يشعلون محرقة نفسية معاصرة لم يسبق لها مثيل في التاريخ ، لا تنال من آلاف أو بعض مئات من الآلاف أو .... بل من شعوب الأرض كافة ، بمن فيهم البريطانيين والفرنسيين .

حين ردّ وزير خارجية بريطانيا على الوزير السوري ذلك الردّ ، ماذا قال له ؟؟ ألم يقل له : ( ما قيمة أن تكون على حق أو لا تكون ؟؟ ) ألم يقل لكل الجالسين حول تلك الطاولة الشهيرة وأولهم مندوب لبنان ، ألم يقل لهم : ( ما قيمة أن تكونوا مظلومين أو غير مظلومين ؟ ) ، الم يقل لكل تلك الملايين من الرؤوس الشاخصة بعينيها إلى شاشات التلفزيون ، وهي تتابع الترجمة وقلبها يرتجف ، ألم يقل لهم : ( ما قيمة أن يكون في رؤوسكم عقول أو لا يكون ؟ ) .

لماذا نلوم جاك استرو على وقاحته ؟؟ .... فحقاً ما قيمة العقول إن لم توضع في الاستخدام ؟؟؟ ما قيمة أن نستعد للمرحلة القادمة من التحقيق ؟؟ ما قيمة لجان التحقيق والقضاة والشهود والمتهمين والأبرياء والظالمين والمظلومين والمخططين والمنفذين والأدلة والتعاون الشكلي والتعاون الجوهري ...... ما قيمة كل ذلك وغيره كثير .... هل يظن أحد مع سعد الدين الحريري أن أباه صار أهم بكثير من جون كندي ؟؟؟ هل يظن أن الحرب العالمية الأولى قامت لأن فرانسيز فرديناند قد اغتاله صربي ؟؟ هل يظن سعد الدين وعائلته جميعاً ودون استثناء ، أنهم إن تنازلوا عن حقهم الشخصي في جريمة اغتيال فقيد عائلتهم ، وسامحوا مرتكبها كائنا من كان ، وقام رئيس الجمهورية اللبنانية ومجلس نوابها وحكومتها وتنازلوا عن حقهم العام في هذه الجريمة وسامحوا أيضاًً مرتكبها ... هل يظن سعد الدين أن أمريكا ستطوي الموضوع ؟؟؟ وهل يظن أنه بعد أن تحقق أمريكا أهدافها ، أنها ستسير لو خطوة وراء كشف ( الحقيقة ) ، هل يظن أن أمريكا تستطيع أن تحتمل كشف الحقيقة ؟؟ بل هل يظن أن أمريكا لا تعرف الحقيقة ؟؟ هل يظن أن أمريكا كانت ستدخل جيشها إلى بلد يملك أسلحة دمار شامل ؟؟ لولا معرفتها بالحقيقة ؟

الكارثة الكبرى ، لو كان سعد الدين وبعض السياسيين يعرفون ذلك ويدركونه جيداً ، وهذا هو المرجح ، لأن الدخول في اللعبة السياسية هو ما يؤمن ( المستقبل ) وليس كشف ( الحقيقة ) ، فكيف إذا كانت اللعبة السياسية لعبة أمم عظمى ، فهل لك أن تتراجع أو حتى أن تتلكأ ؟؟؟ خاصة إذا كان لك إرث كبير !
أن يكون هناك انتظار لجدوى من التعاون الجوهري ، فهذا زمن ضائع ، ولأن الجميع بعد التمرين المضني على خشبة المسرح العراقية ، قد حفظوا أدوارهم جيداً ، فإن العرض المسرحي سيجري بسلاسة أكبر ، دون مؤتمرات قمة ، ودون ضجيج مظاهرات الذين لا أدوار لهم ، الأدوار المحددة والتي ستؤدّى هي : من سيشدّ من أزر سوريا بالكلام الحماسي دافعاً بها في مسارات رسمها غيره ، هناك من سيخيفها بنصائحه دافعاً بها في نفس المسارات ، وحين نكتشف أن تلك المسارات مغلقة بإحكام ، هناك من سيوفر مخارج من تلك المسارات ... لكن إلى الاستسلام .....

من يستطيع الادعاء ، أنه لم يلاحظ التسارع غير المنطقي الذي تطلبه أمريكا من مجلس الأمن حول جريمة اغتيال الحريري ؟؟ .... ألم تستبق أمريكا مجريات عمل لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق ؟ ألم تستبق التوافق في مجلس الأمن وخرجت عن الشرعية الدولية ، وشنت حرباً بل غزواً على العراق ؟؟ ماذا لو كشفت ( الحقيقة ) قبل أن فعلت ما فعلت ، ولم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل ، التي أثبت أنها غير موجودة ، هل ستكون جيوش أمريكا اليوم في العراق بسبب هذه الذريعة ؟؟ لكن لأن أمريكا تعرف ( الحقيقة ) ، وربما وحدها من يعرف ( الحقيقة ) ، سارعت إلى استباقها لأن كشف ( الحقيقة ) لا يخدم أمريكا ، إن كان هناك مجال لكشفها .

إن الإيقاع الذي تصممه أمريكا لمجريات الأحداث ، هو الركن الأساسي لتنفيذ أهدافها في المنطقة وليس كشف ( الحقيقة ) ، إن دعوات انعقاد المجلس وتشكيل اللجان ومهلة التعاون المحددة لسوريا ، كل ذلك وغيره لا يتناسب مع ما يقوله ( ميليس ) بالذات أن التحقيق بحاجة ربما إلى سنوات !!!

ومن سيحكم على أن سوريا تعاونت أو لم تتعاون ؟؟ هل هو أحد من خارج هذا العالم الذي شاهدناه من يومين في مجلس الأمن، يرسم صورة مضحكة عن ( مقاومته لمشروع أمريكا )؟؟ وهل ستهتم أمريكا إن قال من سيحكم على تعاون سوريا ، أنها قد تعاونت جوهرياً ؟؟

إن أمريكا تريد أن تسبق ( الحقيقة ) لا أن تكشفها ، إن التغيير الذي تريده أمريكا في بنية مجتمعات المنطقة ليس له علاقة بجريمة اغتيال الحريري ، فليتوقف ابن الحريري عن شكر ( العالم ) الذي يخدم أمريكا ، ليس في اغتيال أبيه فقط ، بل في اغتيال هويته بكل تفاصيلها .

لا يجب أن يكون هناك وقت ضائع في البحث عن ( الحقيقة الموهومة ) وفي إثبات التعاون الجوهري ، فوحده ما هو متوفر من محور بيروت ودمشق وبغداد وطهران يستطيع تغيير ما هو قادم ، فجرائم من نوع اغتيال الحريري ، لا ترتكب لتُكشَف ، بل لتؤدي دوراً في تغيير مسار التاريخ وحقائق الجغرافيا لو إلى حين ، ولا نظن أن سوريا هي من كان يطمح لتغيير مسار التاريخ ، ولا أسامة بن لادن أيضاً ، ولا الصربي الذي اغتال ولي عهد النمسا .

الجوهر ، هو في إجراءات عملية فورية داخل بنية المجتمع الممتد من بيروت إلى طهران تجعل منه مجتمعاً مقاوماً . الجوهر ، هو في الالتقاء الفوري لما هو متوفر من هذا المحور ، لإعادة العراق إلى المعادلة ، فلولا خروجه منها ، ما كان ليحصل ما حصل وما سيحصل ، بل إن خروجه هو الخطوة الأولى في ما هو مقرر من مخطط أمريكا الصهيونية .