بقلم تييري ميسان

شبكة فولتير/ باريس (فرنسا/ ١٨ حزيران ٢٠٢٢

دميترو دونتسوف، صاحب فكرة "القومية الأوكرانية التّامّة". قراءة كتاباته إجباريةٌ لجميع الجنود القوميّين الأوكرانيّين، خصوصاً أعضاء فرقة أزوف.

إذا كنتُ في مقالاتٍ سابقةٍ قد قدّمت تاريخ الحركة البنديرية منذ فترة ما بين الحربين إلى اليوم، فإنّني أودّ اليوم أن أتحدّث عن أيديولوجيتهم.

مرجع البنديريّين الفكري، في الأمس واليوم، هو دميترو دونتسوف (١٨٨٣-١٩٧٣). بالرّغم من كونه قد مات في كندا ودُفن في الولايات المتّحدة، لم تتمّ ترجمة كتاباته، ولكنّ أتباعه عرّفوننا عليها. يفسّر غياب كتابات دونتسوف عن رفوف المكتبات غير الأوكرانية كونه غير معروف في الخارج. خلال الأعوام الأخيرة، بعد غيابٍ طويلٍ، أصبحت كتابات دونتسوف من بين الأكثر مبيعاً في أوكرانيا.

مثل النّازيّين، استلهم دونتسوف من تفسيره لأفكار نيتشه، ودعا إلى ولادة "رجلٍ جديدٍ" ذات "إيمانٍ مشتعلٍ وقلبٍ من حجر"، لا يخاف من تدمير أعداء أوكرانيا دون شفقة. بصفته مُبتكر "فكرة القومية الأوكرانية التّامّة"، بنى دونتسوف فلسفةً تعتبر أنّ كلّ شيءٍ قوميٍّ هو مُعادٍ للروس ولليهود.

كان دونتسوف يفكّر بخلق شعبٍ من النُّخب، بعيداً عن "فكر المساواة التّابع للعبيد" (ثورة اوكتوبر الروسية) وعن "المثل العليا الشاملة للبشرية" (الثورة الفرنسية).

كان دونتسوف يؤكّد أنّ مخيّلة الأوكرانيين الحقيقيّين يجب ’"أن تتغذّى من أسطورة المعركة الأخيرة"، مم "رفض الحالة القائمة"، ومن "المشهد السّاحر للكارثة الّتي ستأتي بالجديد". على الأوكرانيين أن يتبعوا "نظاماً صارماً" و "بِطاعةٍ متهوّرة".

بحسب دونتسوف، "القومية الأوكرانية" تتميّز:
 "بالتّأكيد على إرادة الحياة، القوّة، والتّوسّع" (روّج دونتسوف لفكرة "حقّ الأعراق القويّة في تنظيم الشّعوب والأقوام بهدف تحصين الثقاقة والحضارة القائمتَين")
 و "بالتّتوّق إلى القتال مع إدراك وحشيّته" (أشاد دونتسوف بِ"العنف الخلّاق الّذي تمارسه الأقلّيّة المُبادِرة")

سِمات هذه ا"القوميّة" هي:
 "التّعصّب الشّديد"؛
 "انعدام الأخلاقيّات".

في الميثولوجيا الإسكاندينافية، الفالكيريز هنّ خادمات الإله أودين، وتمتطينَ الذّئاب، لكنّ الجرمانيّون يصوّرونهنّ على ظهور الخيل. مشهد "امتطاء الفالكيريز"، الّذي تخيّل ريتشارد فاغنر لحنه الموسيقي، يتطرّق في الوقت آنه إلى موت الأبطال

التّعصّب الشّديد يُحيلنا إلى إلى طبيعة عقيدة دونتسوف الدّينية. يشير دونتسوف إلى أنّ ذاك هو ما يجعل المُحاربين لا يُقهرون. من المنطقي إذاً قبول ستيبان بنديرا وياروسلاف ستيتسكو بأن يعملوا في ميونخ مع منظّمة الإخوان المسلمين السّرّيّة عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو تشكيل أتباعهما عام ٢٠٠٧ لجبهة مُعاداة لروسيا مع الجهاديّين الشّيشانيّين.

في بداية كتاباته، لم يجد دونتسوف إلهامه في الفاشية الإطالية أو النّازية الألمانية، بل يبدو موصوماً بذات الأسُس الفكريّة الّتي بُنيت عليها عقائد الأوستاشي الكرواتيّين، الحرس الحديدي الرّوماني، حزب غلينكا السّلوفاكي، والتّجمّع القومي الرّاديكالي البولّندي.

مع اتّصاله بالنّازيّين، أصبح دونتسوف ينسب لنفسه جغرافيا وتاريخاً أسطوريَّين. بحسب دونتسوف، "الأوكرانيون الحقيقيون" هم من أصولٍ سكاندينافية أو بروتو-جرمانية، ويتحدّرون من الفارانغيّين، إحدى قبائل الفايكينغ من السّويد. بحسب الأسطورة، قام أجداد "الأوكرانيّين الحقيقيّين" ببناء مدينة نوفغورود في روسيا وإخضاع السّلاف الرّوس.

في هذه الميثولوجيا، "القوميّون الأوكرانيّون" يجسّدون الخير، بينما يجسّد "الموسكوفيّون" الشّرّ. من الطّبيعيّ جدّاً إذاً أن تُعلن مُلهِمة حزب سفوبودا (حرّيّة) آيرينا فالون، قبل بداية العمليّة العسكرية الرّوسية بكثير: "لقد أتينا إلى هذا العالم من أجل تدمير موسكو".

عام ٢٠١٥، تمكّن الرّئيس بيترو بوروشينكو ورئيس الحكومة أرسيني ياتسينيوك من فرض انتخاب مجموعة قوانينٍ تمنع من جهة الرّموز والشعارات الشيوعية والنازية، وتعيد تأهيل الرّموز والشعارات البنديرية من جهة أخرى. عملياً، بما أنّ لا أحداً كان يسمّي نفسه نازياً، تعلّق الأمر بتدمير الأنصبة التّذكارية الّتي تمجّد انتصار الجيش الأحمر على النّازيّين، واستبدالها بأنصبةٍ تمجّد ستيبان بنديرا- بالرّغم من كونه مسؤولاً عن قتل ١.٦ مليون من مواطنيه- ومرجعه الفكري دميترو دونتسوف.

كان مجلس أوروبا في ذلك الوقت قد انتقد قوانين "إزالة الشيوعية" هذه، لكونها تقذف أنظمةً سياسيةً بشكلٍ عام، دون ذكر الأعمال المُعيّنة الّتي تدينها.

مع هذه القوانين دخل شعار البنديريّين الخطاب الرسمي: “المجد لأوكرانيا!". بالطّبع ليس لديّ أيّ شيءٍ تجاه هذا الشعار، شأنه شأن هتاف المسلمين "الله أكبر!. ولكن، بعد أن سمعت الجهاديين الّذين حاولوا ذبحي وهم يهتفونه، لم أعد عند سماعه أقدر على التّفكير بأنّ "الله كبير!"، وما زلتُ أقشعرّ بدناً من مقصد الجهاديّين من هذا الهتاف.
كذلك، من المنطقي أن تكون أوكرانيا قد تحصّلت على نصوصٍ قانونيةٍ تشرّع شكلاً من التمييز العرقي. في ٢١ تمّوز ٢٠٢١، وقّع الرئيس زلنسكي على قانونٍ (كان هو من بادر إلى تقديمه) متعلّقٍ "بِسكّان أوكرانيا الأصليّين". ينصّ هذه القانون على أنّ التّتر واليهود القرائيّين لهم "الحقّ في التّمتّع كلّيّاً بجميع حقوق الإنسان وجميع الحرّيّات الأساسية" (كذا). قد يبدو هذا النّص منفتحاً وكريماً، ولكنّه عكس ذلك تماماً، لأنّ تفسيره يتمّ بشكلٍ عكسي. يكمل هذا القانون النّصوص الّتي تعترف بحقوق الأوكرانيين ذوي الأصول الإسكاندينافية أو البروتو-جرمانية. عملياً، تستخدم المحاكم هذا النّصّ لتنفي حقوق الأوكرانيين الّذين لا يقعون ضمن الفرقة العامّة أو إحدى الأقلّيّات، أي بشكلٍ واضحٍ الأوكرانيين الّذين يعتبرون أنفسهم سلافيّين ذوي أصولٍ سلافيَة. هؤلاء الأخيرين لا يمكن لهم الإحتجاج أمام المحاكم بحقّهم في "التّمتّع كلّيّاً بجميع حقوق الإنسان وجميع الحّرّيّات الأساسية".

في ٢٠ آذار ٢٠٢٢، أعلن الرّئيس زلنسكي في فيديو تمّ بثّه على قناة التّلغرام الخاصّة به: " أي نشاطٍ من قبل سياسيّين مُشاركين في تقسيم المجتمع أو التّعامل مع العدوّ لن ينجح، وسيكون الجواب عليه قاسياً". بذلك، تمّ منع ١١ حزباً سياسياً. إذا كان معظم هذه الأحزاب غير ممثّل في المجلس النيابي ذات الغرفة الواحدة، فإنّ أحدها "منصّة المعارضة-من أجل الحياة" كان ثاني أكبر أحزاب البلاد، متحصّلاً على ٤٣ كرسيٍّ من أصل ٤٥٠ (أي ١٣ بالمائة).

كذلك في ٢٠ آذار، وقّع الرّئيس زلنسكي على مراسيمٍ تمنع، لمدّة ٥ سنوات، ٣ قنواتٍ تلفزيونية كانت قد "عُلِّقت" منذ عدّة أشهر. إضافةً إلى ذلك، تمّ دمج جميع القنوات الباقية ووضعها تحت تصرّف مجلس الأمن والدّفاع.

إذاً، لم تعد هنالك أيّ حرّيّة تعبير، لا للسّياسيّين ولا للصّحافيّين. الدّيموقراطية الأوكرانية ماتت، ليس على يد العمليّة الرّوسية، بل بإرادة الحكومة الأوكرانية.

تمَ تأسيس مجلس من أجل تطوير المكتبات في ٥ أيار ٢٠٢٢. عليه خصوصاً أن يحكم على الكتب الرّوسية الّتي تملأ الرّفوف. أعلن وزيرة الثقافة وسياسة الإعلام، الصَحافي أوليكساندر تكاشينكو، أنّه يمكن إعادة تدويرها واستخدامها ورقاً لطباعة الكتب الأوكرانية.

منع الكتب الممنهج هو أحد أهمّ نشاطات الدّيكتاتوريات. هذه المرّة، لن يتمّ إحراق أيّ شيءٍ في العلن، بل ستتمّ إعادة تدوير الورق. هكذا نكون أقلّ جلباً للإنتباه وأكثر صداقةً مع البيئة.

فلنرى الآن طريقة خوض الحرب. إحدى خصوصيات الجيش الأوكراني تقفز إلى انتباهنا: هذا الجيش لا يلمّ جثث موتاه الّذين قتلوا في المعارك. جميع جيوش العالم لا تتردّد في أخذ المخاطر من أجل استرجاع جثث قتلاها، لأنّ تشييع القتلى بشكلٍ لائقٍ في أعينها مهمّ جدّاً، وعدم القيام يذلك يضرّ بمعنويّات الجنود الأحياء. إذاً لما يتصرّف الجيش الأوكراني بعكس جميع الجيوش الأخرى؟

إذا كنتُ أفهم فكر دميترو دونتسوف، فإنّ ذلك يعود إلى التّحضير للمعركة الإسكاتولوجية بين الخير والشّر. بحسب الميثولوجيا الإسكاندينافية، عندما كان الفارانغيون يخوضون قتالاً ما، كانت الفالكيريز تنزل إلى حقل القتال ممتطيةً الذّئاب، وتقرّرنَ أيّاً من الفايكينغز الشّجعان سيموت. بعد ذلك تحمل الفالكيريز أرواح القتلى إلى فالهالا لتشكّلن معهم الجيش المستقبلي الّذي سيخوض "المعركة الأخيرة". بذلك، الرّجال الّذين يسقطون على ساحة المعركة ليسوا ضحايا الصّدفة، بل تمّ اختيارهم من أجل تحقيق قدرٍ مجيد.

بحسب معهد الدراسات الأوروبية، الروسية، والأوراسيوية في جامعة جورج واشنطن (٢٠٢١)، لقد اخترقت منظّمة سنتوريا السرية جيوش ألمانيا، كندا، فرنسا، بولّندا، المملكة المتّحدة، والولايات المتّحدة.

تشير هذه الأيديولوجية المقدّسة إلى "صلاة القوميّين الأوكرانيّين"، الّذي كان قد كتبها جوزيف ماسشاك في ١٩٢٢. يتمّ تعليم هذه الصّلاة وترديدها في المخيّمات الشّبابية الّتي ينظّمها البنديريون. كذلك، هذه الصّلاة هي من صلب جماعة سنتوريا السّرّية الّتي مكّنها البنديريون من خرق جيوش النّاتو.

إذاً، هذه ليست سوى بداية حرب "القوميّين الأوكرانيّين" ضدّ السّلافيّين.

ترجمة
Alaa el-Khair