روسيا لا تحارب الشّعب الأَوكراني، بل مجموعة صغيرة ضمن الطّبقة الحاكمة الأمريكية، قامت بتغيير طبيعة اوكرانيا دون علم هذه الأخيرة: السّتراوسيّون (أتباع ليو ستراوس). تكوّنت هذه المجموعة قبل نصف قرن وتسبّبت حتّى اليوم بكمّيّة جرائم لا تكاد تُصَدّق في أمريكا اللاتينية والشّرق الأوسط، دون علم الأمريكيين. هذا هو تاريخ هذه الفرقة.
أيأتي هذا المقال في سياق:
– ١ تريد روسيا أن تجبر الولايات المُتّحدة الأمريكية على احترام ميثاق الأُمم المُتّحدة، ٤ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215200.html
– ٢ تواصل واشنطن مشروع مؤسّسة راند في كازاخستان، ثمّ ترانسنيستريا، ١١ كانون الثّاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215272.html
– ٣ واشنطن ترفض الإستماع إلى روسيا والصّين، ١٨ كانون الثاني ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215365.html
– ٤ واشنطن ولندن مُصابتان بالطّرش، ١ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215468.html
– ٥ واشنطن ولندن تحاولان أن تحميا هيمنتهما على أوروبا، ٨ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215574.html
– ٦ طريقتان مُختلفتان في التّعامل مع القضيّة الأوكرانية، ١٥ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215673.html
– ٧ واشنطن تقرع طبول نصرٍ قادم، حلفاؤها ينسحبون، ٢٢ شباط ٢٠٢٢.
https://www.voltairenet.org/article215769.html
في فجر ٢٤ شباط، دخلت القوّات الرّوسيّة اوكرانيا. بحسب الرّئيس بوتين، الّذي كان يُلقي خطاباً مُتلفزاً، تشكّل هذه العمليّة جواب بلاده على "هؤلاء اللّذين يطمحون إلى الهيمنة على العالم" واللّذين يدفعون بُنى النّاتو التّحتيّة نحو حدود بلاده. لخّص بوتين في هذا الخطاب الطّريقة الّتي دمّر النّاتو بها يوغوسلافيا دون أن يسمح له مجلس الأمن التّابع للأمم المُتّحدة بذلك، حيث وصل به الأمر إلى قصف بلغراد عام ١٩٩٩. ثمّ مرّ بوتين على تدمير الولايات المُتّحدة للشّرق الأوسط، من العراق، إلى ليبيا، إلى سوريا. لم يُعلن بوتين إرسال جنوده إلى أوكرانيا إلّا بعد أن أنهى هذا الإستعراض، مُكلِّفاً جيشه بِمهمّتين: تدمير القوّات المُسلّحة المُتّصلة بحلف النّاتو والقضاء على المجموعات المسلّحة النّيونازيّة الّتي يدعمها هذا الأخير.
على الفور، ندّدت جميع الدّول العضوة في حلف النّاتو بِاحتلالٍ روسيٍّ لأوكرانيا يتطابق مع احتلال تشيكوسلوفاكيا خلال "ربيع براغ" (١٩٦٨). بحسب هذه الدّول، قامت روسيا بتبنّي "عقيدة بريجنيف" العائدة للإتحّاد السّوفياتي. لهذا السّبب يجب على العالم الحرّ أن يعاقب "امبراطورية الشّر" الّتي عادت من الموت عبر تكبيدها "تكاليف باهظة".
يهدف هذا التّفسير الأطلسي لما يحصل، قبل كلّ شيء، إلى منع روسيا من استخدام حجّتها الأساسية: نعم، النّاتو لا يشكّل كونفدرالية بين أعضاءٍ مُتساوين، بل فدرالية هرميّة يقودها الأنغلوساكسون، ولكنّ روسيا تتصرّف بالمثل. كيف لا وهي ترفض حقّ الأوكرانيين في تقرير مصيرهم، تماماً مثلما رفض السّوفيات حقّ التشيكوسلوفاكيين في ذلك. بالطّبع، تخالف طريقة عمل النّاتو مبادئ السّيادة والتّساوي بين الدّول الّتي يشترطها ميثاق الأمم المتحدة، ولكن لا يجب حلّ الحلف إلّا مع حلّ روسيا.
ربّما، ولكن على الأرجح لا.
لم يكن خطاب الرّئيس بوتين موجّهاً نحو اوكرانيا، أو حتّى ضدّ الولايات المُتّحدة، بل بشكلٍ صريحٍ ضدّ "من يطمحون إلى الهيمنة على العالم"، أي ضدّ "السّتراوسيّين" في الحُكم هناك. كان ذلك إعلان حرب حقيقيٍّ ضدّهم.
في ٢٥ شباط، وصف الرّئيس بوتين القوّة الحاكمة في كييف على أنّها "زمرةً من المُخَدَّرين والنّيونازيّين". بالنّسبة للإعلام الأطلسي، كلّ هذا ينمّ عن كلام مريض نفسي.
خلال ليل ٢٥ و٢٦ شباط، أرسل الرّئيس فولوديمير زيلينسكي، عبر السّفارة الصّينيّة في كييف، اقتراحاً لوقف إطلاق النّار. أجابه الكرملين على الفور بالشّروط التّالية:
– إلقاء القبض على جميع النّازيّين (دميترو ياروش وكتيبة أزوف إلخ)،
– إزالة جميع أسماء الشّوارع وتدمير جميع النّصب التّذكارية الّتي تمجّد المتعاونين مع النّازيّين خلال الحرب العالمية الثانية (ستيبان بانديرا إلخ)،
– رمي السّلاح.
تجاهل الإعلام الأطلسي هذا الحدث، بينما حبس باقي العالم، الّذي كان يعلم به، أنفاسه. فشلت المفاوضات بعد عدّة ساعات، مع تدخّل واشنطن. لم يتمّ إعلام الرّأي العام الغربي إلّا في تلك اللّحظة عمّا حصل، ولكن مع التكتّم على الشّروط الرّوسيّة.
عمّا يتحدّث الرّئيس بوتين؟ ضدّ من يحارب؟ وما هي الأسباب التّي أعمت أعين وأصمّت آذان الإعلام الغربي؟
تاريخٌ موجزٌ للسّتراوسيّين
فلنتوقّف للحظة على تاريخ هذه الفِرقة، الّتي لا يعلم عنها الغربيّيون الكثير. يتعلّق الأمر بأفرادٍ، جميعهم يهود، ولكن لا يمثّلون، على الإطلاق، لا اليهود الأمريكيين، ولا اليهود حول العالم. قام بتعليم هؤلاء الأفراد الفيلسوف الألماني ليو ستراوس، الّذي التجأ إلى الولايات المُتّحدة مع صعود النّازيّة، وأصبح بروفيسور فلسفة في جامعة شيكاغو. بحسب العديد من الشّهادات، كوّن ستراوس فرقة صغيرة من التّلاميذ الأوفياء اللّذين لقّنهم دروساً شفهيّةً. لا توجد إذاً أيّ مخطوطات في هذا المجال. فسّر ستراوس لتلاميذه أنّ الوسيلة الوحيدة لحماية اليهود من إبادة جديدة هي بتكوينهم لديكتاتورية تابعة لهم. أعطى ستراوس تلاميذه لقب "هوبلايطس" (نسبةً لجنود اسبارطا)، وكان يرسلهم لعرقلة دروس مُنافسيه. أخيراً، علّم ستراوس تلاميذه أهمّيّة التّكتّم، وأشاد ب"الكذب النّبيل". مات ستراوس عام ١٩٧٣، ولكنّ الفرقة الّتي أسّسها بقيت.
بدأ السّتراوسيّون بتشكيل فريقٍ سياسيٍّ قبل نصف قرن، عام ١٩٧٢. جميعهم كانوا أعضاءً في فريق عمل السّيناتور الدّيموقراطي هنري "سكوب" جاكسون، خصوصاً إليوت أبرامز، ريتشارد بيرل، و بول ولفويتز. تعاونت هذه الفرقة بشكلٍ وثيقٍ مع مجموعة من الصّحافيّين التّروتسكيّين، اليهود ايضاً، اللّذين كانوا قد تعرّفوا على بعضهم بعضاً في كلّيّة مدينة نيو يورك، وعمِلوا في تحرير مجلّة كومنتاري. كان لقب هؤلاء الصّحافيّون هو "الأدباء النّيو يوركيّين". كانت الفرقتَين على اتّصالٍ وثيقٍ بوكالة الإستخبارات المركزيّة، ولكن ايضاً بمؤسّسة راند، عبر ألبيرت وولستيتّر (الخبير الإستراتيجي) القريب من بيرل. الكثير من هؤلاء اليافعين تزوّجوا من بعضهم بعضاً، وتمكّنوا من تكوين مجموعة مُتراصّة تضمّ حوالي مائة شخص.
تمكّنت هذه الفرقة، متعاونة مع بعضها بعضاً، من كتابة تعديل "جاكسون-فانيك" وسط ازمة فضيحة الواترغايت (١٩٧٤)، وحَمْلِ الكونغرس على تبنّيها. أجبر هذا التّعديل الإتّحاد السّوفياتي على السّماح بهجرة سكْانه اليهود إلى اسرائيل تحت ضغط عقوباتٍ اقتصادية. كان هذا بمثابة وثيقة تأسيس الفرقة.
عام ١٩٧٦، كان بول ولفويتز [1] أحد أعضاء "الفريق باء" الّذي كلّفه الرّئيس جيرالد فورد مهمّة مُعاينة حِدّة التّهديد السّوفياتي [2]. أعدّ ولفويتز تقريراً جنونيّاً اتّهم الإتّحاد السّوفياتي بالتّحضير للاستيلاء على "هيمنةٍ عالميّة". تغيّرت طبيعة الحرب الباردة، بحيث أنّ الأمر لم يعد يتعلّق بعزل الإتّحاد السّوفياتي (سياسة الإحتواء)، بل بتوقيفه لِإنقاذ "العالم الحرّ".
وضع السّتراوسيّون والأدباء النّيو يوركيّين (وجميعهم يساريّين) أنفسهم في خدمة الرّئيس اليميني رونالد ريغان. يجب فهم أنّ هاتين المجموعتين ليستا يساريّتين أو يمينيّتين، وبعض أفرادهما تدحرج خمس مرّاتٍ، بين الحزب الدّيموقراطي والحزب الجمهوري. المهمّ بالنّسبة لهم هو التّغلغل إلى مناصب الحكم، أيّاً كانت أيديولوجيّته. توصّل إليوت أبرامز إلى منصب مساعد لوزير الخارجية. قاد أبرامز عمليّةً في غواتيمالا، حيث وضع ديكتاتوراً في الحكم، واختبر، بمساندة ضبّاطٍ من الموساد، إمكانيّة خلق محميّاتٍ لهنود المايا، بهدف تطبيق الفكرة مع الوقت على العرب الفلسطينيّين (مُقاومة الهنود المايا هي سبب فوز ريغوبرتا مانشو بجائزة نوبل للسّلام). ثمّ واصل أبرامز جرائمه في السّلفادور وأخيراً في نيكاراغوا، ضدّ السّاندينيّين مع قضيّة إيران-كونترا. من جهتهم، كوّن الأدباء النّيو يوركيّون الوقف القومي للدّيموقراطيّة (النّيد) والمعهد الأمريكي من أجل السّلام، وتمكّنوا عبرهما من تنظيم الكثير من الثّورات الملوّنة، بدايةً بالصّين مع محاولة الإنقلاب الّتي قادها رئيس الحكومة تشاو جيانغ والقمع الّذي تلاها في ساحة تيانانمين.
عند انتهاء ولاية الرئيس جورج بوش الأب، أعدّ ولفويتز (الّذي كان وقتها الرّقم ٣ في وزارة الدّفاع) مستنداً [3] تمحور حول فكرة اساسية واحدة: بعد تفكّك الإتّحاد السّوفياتي، على الولايات المتحدة أن تمنع قيام مُنافسين جدد، بدءاً بالإتّحاد الأوروبي. إختتم ولفويتز مستنده بالدّعوة إلى الإنفتاح على امكانية اتّخاذ قراراتٍ اُحاديّة، أي امكانية القضاء على التّنسيق بين الأمم المتّحدة. دون أيّ شكّ، ولفويتز هو العقل المُدبِّر وراء عمليّة "عاصفة الصّحراء"، أي عمليّة تدمير العراق الّتي سمحت للولايات المُتّحدة بأن تغيّر قواعد اللّعبة وأن تؤسّس نظاماً عالميً جديداً. في هذه الحقبة قام السّتراوسيّون بتثمين مفاهيم "تغيير الأنظمة" و"نشر الدّيموقراطيّة".
تغلغل غاري شميتّ، أبرام شولسكي، وبول ولفويتز في عالم الإستخبارات الأمريكية، بفضل مجموعة العمل على إصلاح الإستخبارات. إنتقد المذكورون مُنطَلَقْ أنّ الحكومات الأخرى تُفكّر بنفس الطّريقة الّتي تفكّر بها الولايات المتحدة [4] ثمّ انتقدوا غياب التّوجيه السّياسي للإستخبارات، الّتي تُرِكَت لتهيم بين مواضيعٍ دون أهمّيّة بدلا عن التّركيز على أهدافٍ أساسية. نجح ولفويتز في تسييس الإستخبارات من جديد (بعد أن كان قد فعل ذلك مع الفريق باء) عام ٢٠٠٢، مع مكتب المشاريع الخاصّة، حيث تمّ اختلاق الحجج لتبرير حروبٍ قادمةٍ ضدّ العراق وايران (مفهوم "الكذبة النّبيلة" الّذي قال به ستراوس).
تمّ إبعاد السّتراوسيّين عن الحكم خلال عهد بيل كلينتون. لذلك، تغلغل السّتراوسيّون في معاهد أبحاث واشنطن. عام ١٩٩٢، نشر ويليام كريستول وروبرت كاغان (زوج فيكتوريا نولاند الّتي ذكرناها كثيراً في الأجزاء السّابقة) مقالاً في مجلّة الشّؤون الخارجية، حيث ندّدوا فيه بسياسة الرّئيس كلينتون الخارجية الخجولة ودعوا إلى تجديد "هيمنة الولايات المُتّحدة الهادفة إلى الخير" [5]. في العام التّالي، كوّن المذكوران مشروع القرن الأمريكي الجديد ضمن مجالس المعهد الامريكي للمشاريع. كان غاري شميت، ابرام شولسكي، وبول ولفويتز أعضاء فيه. إنضمّ إليهم على الفور جميع المُعجبين الغير يهوديّين بِليو ستراوس، مثل البروتستانتي فرانسيس فوكوياما (مؤلّف كتاب "نهاية التّاريخ").
عام ١٩٩٤، بعد أن جعل من نفسه تاجر سلاح، أصبح ريتشارد بيرل (المُلَقّب ’’بأمير الظُّلُمات") مستشاراً للرّئيس النّازي سابقاً علي عزّت بيغوفيتش في البوسنة والهرسك. بيرل هو من استجلب اوساما بن لادن والفيلق العربي (جدّ تنظيم القاعدة) التّابع له من أفغانستان لحماية البلاد. كان بيرل عضواً في البعثة البوسنيّة عند إمضاء اتّفاقات دايتون في باريس.
عام ١٩٩٦، أعدّ أعضاءٌ في مشروع القرن الأمريكي الجديد (منهم ريتشارد بيرل، دوغلاس فايث، ودافيد وورمسر) دراسةً ضمن معهد الدّراسات الإستراتيجيّة والسّياسيّة المتقدّمة، لصالح رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، بنيامين نتنياهو. دعا هذا التّقرير [6] إلى قتل ياسر عرفات، ضمّ الأراضي الفلسطينية، حرب على العراق، ونقل الفلسطينيين إلى هناك. لا يجد هذا التّقرير إلهامه في نظريات ليو ستراوس السّياسية فقط، بل ايضاً في نظريات صديقه، زائيف جابوتينسكي، مؤسّس "الصّهيونية التّصحيحية"، الّذي كان والد بنيامين نتنياهو سكرتيره الخاص.
جمع مشروع القرن الأمريكي الجديد التّبرّعات الدّاعمة لترشيح جورج بوش الإبن، ونشر، قبل انتخاب هذا الأخير، تقريره الشّهير، "إعادة بناء دفاعات أمريكا". تمنّى هذا التّقرير بشدّةٍ حصول كارثة يمكن مقارنتها بكارثة بيرل هاربور، من شأنها أن تسمح بدفع الشّعب الأمريكي نحو حرب على الهيمنة العالمية. هذه هي تحديداً العبارات ذاتها الّتي استخدمها وزير الدّفاع الأمريكي دونالد رامسفلد يوم ١١ أيلول ٢٠٠١.
بفضل احداث ١١ ايلول، تمكّن ريتشارد بيرل وبول ولفويتز من وضع الأميرال آرثر سيبروسكي في ظلّ رامسفلد، حيث لعب دوراً يمكن مقارنته بدور البرت وولستيتّر خلال الحرب الباردة. فرض سيبروسكي عقيدة "الحرب دون نهاية": لم يعد من واجب القوّات المسلّحة الأمريكية أن تُنهي الحروب، بل أن تشعل عدداً كبيراً منها وأن تبقيها مُستعِرةً لأطول فترة ممكنة. تعلّق الأمر بتدمير جميع هياكل الدّول المُستَهدَفة السّياسيّة بشكلٍ يؤدّي إلى انهيارها ومنعها من مقاومة الولايات المُتّحدة بأيّ شكل [7]؛ تطبّق واشنطن هذه الإستراتيجيّة منذ ٢٠ سنة في أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا، اليمن...
تمّ توثيق الحلف بين السّتراوسيّين والصّهاينة التّصحيحيّين خلال مؤتمرٍ كبيرٍ عام ٢٠٠٣، حيث اعتقدت شخصيّات اسرائيلية من جميع الإتّجاهات، لسوء الحظّ، بأنّه من واجبها أن تحضر [8]. ليس إذاً من المُفاجِئ أن نرى فيكتوريا نولاند (زوجة روبرت كاغان، وفي ذلك الوقت سفيرة الولايات المتحدة إلى حلف النّاتو) تتدخّل لإعلان وقف إطلاقٍ للنّار، عام ٢٠٠٦ في لبنان، ممّا سمح للجيش الإسرائيلي المهزوم بأن ينسحب دون أن يلاحقه حزب الله.
بعض الأفراد، مثل بيرنارد لِويس، عملوا مع المجموعات الثّلاث، أي مع السّتراوسيّين، النّيومُحافظين، والصّهاينة التّصحيحيّين. كان بيرنارد لِويس عميلاً قديماً للإستخبارات البريطانية، ثمّ تحصّل على الجنسيّتين الأمريكية والإسرائيليّة، وأصبح مستشاراً لِبنيامين نتنياهو وعضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي. كان لِويس يؤكّد خلال النّصف الأول من مسيرته على أنّ الإسلام لا يتوافق مع الإرهاب وأنّ الإرهابيين العرب هم في الواقع عملاء سوفياتيّين، ثمّ غيّر رأيه وأكّد بالحماسة ذاتها أنّ هذه الدّيانة تدعو إلى الإرهاب. إختلق لِويس لدواعي مجلس الأمن القومي الامريكي استراتيجية "تصادم الحضارات". تعلّق الأمر بتسخير الفروقات الثّقافية بهدف تجييش المسلمين ضدّ الأرثوذكسيين؛ وهو مفهوم أشاعه مساعده في المجلس، صامويل هانتينغتون، إلّا أنّ هذا الأخير لم يقدّمه كإستراتيجية، بل كحتميّةٍ يجب التّصرّف ضدّها. كان هانتنغتون قد بدأ مسيرته بصفة مسؤولٍ في استخبارات جنوب أفريقيا الّتي كانت ما زالت تنتهج سياسة الأبارثايد (الفصل العنصري)، ثمّ ألّف كتاباً، "الجندي والدّولة" [9]، مُؤكّداً فيه أنّ العسكريّين (التقليديّين منهم والمُرتَزقة) يشكّلون طبقةً على حِدة، وحدها قادرةً على فهم حاجات الأمن القومي.
بعد تدمير العراق، أصبح السّتراوسيّون موضوعاً للكثير من المُشاحَنات [10]. الجميع تفاجأ من تمكّن مجموعةٍ بهذا الحجم الصّغير، يدعمها صحافيّون نيومحافظون، من التّحصّل على كلّ هذه السّلطة، دون أن يُناقَشَ ذلك علناً. عيّن الكونغرس الأميركي فريق دراسةٍ للعراق (سُمِّيَ لجنة بايكر-هاملتون) لِمُعاينة سياساتهم. أدان هذا الفريق، دون أن يسمّيها بِاسمها، استراتيجية رامسفلد/سيبروسكي، وندّد بتسبّبها بمئات الآلاف من القتلى. ولكنّ رامسفلد استقال وواصل البنتاغون هذه الإستراتيجية، الّتي لم يتبنّاها رسمياً، دون هوادة.
في إدارة أوباما، وجد السّتراوسيّون أنفسهم ضمن مكتب نائب الرّئيس جو بايدن. لعب مُستشار بايدن في شؤون الأمن القومي، جايكوب سوليفان، دوراً اساسياً في تنظيم العمليّات ضدّ ليبيا، سوريا، وميانمار. كذلك، ركّز أحد مُستشاريه، أنطوني بلينكن، على أفغانستان، باكستان، وإيران. بلينكن هو من قاد التّفاوضات مع القائد الأعلى علي خامنئي، الّتي انتهت بتوقيف وحبس الأعضاء الأساسيّين في فريق عمل الرّئيس أحمدي نجاد، مقابل الإتّفاق على النّووي.
نظّم السّتراوسيّون عمليّة الإنقلاب على النّظام في كييف، عام ٢٠١٤. لعب نائب الرّئيس جو بايدن دوراً مهمّاً، وأتت فيكتوريا نولاند لتدعم الفصائل النّيونازيّة التّابعة لِ"برافي سِكتور" ولِتُشرف على الكومندو الإسرائيلي "دلتا" [11]، في ساحة مايدان. كشفت مُكالمة هاتفيّة تمّ اعتراضها أُمنيّة نولاند بأن "تنكح مؤخّرة الإتّحاد الأوروبي" (كِذا)، وفق التّقليد الّذي وضعه تقرير ولفويتز عام ١٩٩٢. ولكنّ قادة الإتّحاد الأوروبي لم يفهموا ذلك ولم يشتكوا إلّا بشكلٍ مائع [12].
وضع "جايك" سوليفان وأنطوني بلينكن ابن نائب الرّئيس بايدن، هانتر، في مجلس إدارة إحدى أهمّ الشّركات الغازيّة، بوريسما هولدينغز، بالرّغم من اعتراض وزير الخارجية جون كيري. لسوء الحظّ، هانتر بايدن هو مجرّد مُتعاطٍ للمخدِّرات، ولن ينفع إلّا كواجهةٍ لعمليّة احتيال هائلة ضدّ الشّعب الأوكراني. تحت رقابة آموس هوخستاين، عيّن هانتر بايدن العديد من أصدقائه في التّعاطي ليصبحوا دُمىً على رأس العديد من شركات الهولدينغ، بهدف نهب الغاز الأَوكراني. هؤلاء هم من وصفهم الرّئيس بوتين بِ"زُمرة من المُخَدَّرين".
عام ٢٠١٧، أسّس أنطوني بلينكن شركة "ويست إيكسيك أدفايزرس"، المُختصّة بالإستشارات، والّتي تجمع مُوظّفين برتبة عالية من قدماء إدارة أوباما، والكثير من السّتراوسيّين. تعمل هذه الشّركة بتكتّم شديد، بحيث أنّها تستخدم معارف موظّفيها السّياسية لِجَني المال؛ في أيّ مكانٍ آخر في العالم، يُسَمّى هذا فساد.
السّتراوسيّون لم يتغيّروا
منذ عودة جو بايدن إلى البيت الأبيض، هذه المرّة بصفته رئيساً للبلاد، يُمسك السّتراوسيّون بِمقابض الحُكم. "جايك" سوليفان أصبح مُستشاراً للأمن القومي، بينما أصبح أنطوني بلينكن وزير الخارجية، وفيكتوريا نولاند نائبته. كما كُنتُ قد شرحتُ في المقالات السّابقة، كانت هذه الأخيرة قد توجّهت في تشرين الأول ٢٠٢١ إلى موسكو وهدّدت بسحق الإقتصاد الرّوسي في حال عدم امتثال القيادة لمطالبها. من هنا بداية الأزمة الحالية.
أعادت نائبة وزير الخارجية إظهار دميترو ياروش بعد أن كان متوارياً عن الأنظار، وفرضته على الرّئيس زلنسكي، وهو ممثّل تلفزيوني بحماية إغور كولومويسكي. في ٢ تشرين الثّاني ٢٠٢١، تمّت تسمية ياروش مستشاراً خاصّاً لقائد الجيوش، الجنرال فاليري زالوزنِيِه. هذا الأخير هو رجل ديموقراطي حقيقي، ورفض في البداية، ولكنّه انتهى بالقبول. عندما سأله الإعلام عن السّبب وراء هذا الثّنائي الغريب، رفض الإجابة، مُشيراً إلى أنّ المسألة تتعلّق بالأمن القومي. قدّم ياروش دعمه الكامل للعقيد أندري بيليتسكي، الّذي يلقّب نفسه "الفيورِر الأبيض"، ولكتيبة أزوف الّتي يقودها. يتولّى مُرتزقون تابعون لِشركة بلاكواتر، منذ صيف ٢٠٢١ [13]، توجيه هذه الكتيبة المنسوخة عن فرقة البانزر إس إس الثّانية "داس رايخ".
بعد هذا الإستطراد الطّويل الّذي يسمح بتعريف السّتراوسيّين، يجب الإعتراف بأنّ طموح روسيا مفهوم، وبالأحرى مرغوب به. تخليص العالم من السّتراوسيّين هو إحقاق للعدالة بالنّسبة لأكثر من مليون قتيلٍ برقبتهم، وإنقاذ من ينوي السّتراوسيّون قتلهم في المستقبل. يبقى أن نعلم ما إذا كان هذا التّدخّل في اوكرانيا هو الوسيلة المُناسبة.
أياً كان، إذا كانت مسؤولية الأحداث الحالية تقع على السّتراوسيّين، فإنّ جميع من تركهم ليتصرّفوا دون رفع ساكنٍ يحمل هو ايضاً مسؤولية على عاتقه، بدايةً بألمانيا وفرنسا، اللّتَين وقّعتا على اتّفاقات مينسك قبل سبعة أعوام ولم تفعلا أيّ شيءٍ لتطبيقهما، وصولاً إلى الدّول الخمسين اللّواتي وقّعنَ على بيانات منظّمة الأمن والتّعاون المانِعة لتمدّد النّاتو شرقاً بشكلٍ يجتاز خطّ أودر-نايسه ولم تفعَلنَ شيئاً. فقط إسرائيل، الّتي تخلّصت حديثاً من الصّهاينة التّصحيحيّين، أبدت موقفاً مُختلطاً من الأحداث.
هذه إحدى دروس الأزمة: الشّعوب المحكومة ديموقراطياً مسؤولة عن قراراتٍ اتّخذها قادتها وتمّ الحفاظ عليها مع تعاقب الحكّام.
[1] “بول وولفويتز: روح البنتاجون”, بقلم Paul Labarique, شبكة فولتير , 19 كانون الأول (ديسمبر) 2004, www.voltairenet.org/article90166.html
[2] Killing Detente: The Right Attacks the CIA, Anne H. Cahn, Pennsylvania State University Press (1998).
[3] Ce document a été révélé dans « US Strategy Plan Calls For Insuring No Rivals Develop », Patrick E. Tyler, New York Times, March 8, 1992. Voir aussi les extraits publiés en page 14 : « Excerpts from Pentagon’s Plan : "Prevent the Re-Emergence of a New Rival" ». Des informations supplémentaires sont apportées dans « Keeping the US First, Pentagon Would preclude a Rival Superpower » Barton Gellman, The Washington Post, March 11, 1992.
[4] Silent Warfare: Understanding the World of Intelligence, Abram N. Shulsky & Gary J. Schmitt, Potomac Books (1999).
[5] « Toward a neo-Reaganite Foreign Policy », Robert Kagan & William Kristol, Foreign Affairs, july-august 1996, vol. 75 (4), p. 18-32.
[6] «A Clean Break : A New Strategy for Securing the Realm», Institute for Advanced Strategic and Political Studies (1996).
[7] “عقيدة رامسفيلد / سيبروسكي”, بقلم تييري ميسان, ترجمة سعيد هلال الشريفي, شبكة فولتير , 25 أيار (مايو) 2021, www.voltairenet.org/article213170.html
[8] «Sommet historique pour sceller l’Alliance des guerriers de Dieu », Réseau Voltaire, 17 octobre 2003.
[9] The Soldier and the State: The Theory and Politics of Civil-Military Relations, Samuel Huntington, Samuel Huntington, Belknap Press (1981).
[10] Cette polémique se poursuit toujours. Pour écrire cet article j’ai surtout consulté ces huit livres : The Political Ideas of Leo Strauss, Shadia B. Drury, Palgrave Macmillan (1988). Leo Strauss and the Politics of American Empire, Anne Norton, Yale University Press (2005). The Truth About Leo Strauss: Political Philosophy and American Democracy, Catherine H. Zuckert & Michael P. Zuckert, University of Chicago Press (2008). Straussophobia: Defending Leo Strauss and Straussians Against Shadia Drury and Other Accusers, Peter Minowitz, Lexington Books (2009). Leo Strauss and the Conservative Movement in America, Paul E. Gottfried, Cambridge University Press (2011). Crisis of the Strauss Divided: Essays on Leo Strauss and Straussianism, East and West, Harry V. Jaffa, Rowman & Littlefield (2012). Leo Strauss, The Straussians, and the Study of the American Regime, Kenneth L. Deutsch, Rowman & Littlefield (2013). Leo Strauss and the Invasion of Iraq: Encountering the Abyss, Aggie Hirst, Routledge (2013).
[11] «Qui sont ces anciens soldats israéliens parmi les combattants de rue dans la ville de Kiev ?», AlyaExpress-News.com, 2 mars 2014. « Le nouveau Gladio en Ukraine », par Manlio Dinucci, Traduction Marie-Ange Patrizio, Il Manifesto (Italie) , Réseau Voltaire, 18 mars 2014.
[12] « Conversation entre l’assistante du secrétaire d’État et l’ambassadeur US en Ukraine », par Andrey Fomin, Oriental Review (Russie) , Réseau Voltaire, 7 février 2014.
[13] « Exclusive : Documents Reveal Erik Prince’s $10 Billion Plan to Make Weapons and Create a Private Army in Ukraine », Simon Shuster, Time, July 7, 2021.