الفلسطينيون كلهم في دمشق

كان هذا خبرا عاديا دائما، ولكنه في الأسبوعين الماضيين لم يكن كذلك. كانوا كلهم موجودين في دمشق، وكان وجودهم استثنائيا، وكان الرئيس بشار الأسد هو صاحب الفضل في ذلك.

جاء أولا جبريل الرجوب يمهد لزيارة الرئيس محمود عباس. وجاء ثانيا فاروق القدومي ليلتقي مع الفصائل الفدائية بهدف «تفعيل» منظمة التحرير الفلسطينية، وجاء ثالثا الرئيس عباس لينسج صلة مزدوجة، بين السلطة الفلسطينية وسوريا، وبين حركة فتح وسوريا. وكانت الزيارات الثلاث ناجحة بكل المقاييس والمعايير.

لقد كانت هذه هي المرة الثانية التي يلتقي فيها محمود عباس مع بشار الأسد، ولكن لقاءهما انطوى هذه المرة على مضامين عديدة. بحثا اعتراف سوريا بالسلطة الفلسطينية، وكان الاستعداد السوري للاعتراف قائما، لولا الإشكال القانوني الذي يدور حول جواز الاعتراف بسلطة تحت الاحتلال. ثم بحثا نقاطا عملية: قبول دخول المسافرين بجواز السفر الفلسطيني، وفتح خط اتصال هاتفي على الرقم الدولي المخصص للسلطة الفلسطينية “970”، وتحويل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في دمشق إلى سفارة. واتفق الرئيسان على أن يجتمع الوزراء المختصون لبحث هذه المسائل الثلاث، وسجلت دمشق بذلك أنها مستعدة لإعطاء محمود عباس إنجازا في أكثر المسائل حساسية بالنسبة إليها. لم يرد بشار الأسد أن تنحصر الزيارة في إطار اللقاءات الرسمية، فنظم لأول مرة دعوة غداء جمعت الرئيس الفلسطيني مع الفصائل الفدائية كافة. وقد يبدو هذا الحدث عاديا، ولكنه ليس عاديا أبدا، بل حتى يمكن القول إن هذا الغداء الرسمي كان أبرز حدث في الزيارة كلها.

أولا: سوريا المتهمة أميركيا بدعم الإرهاب، يزورها محمود عباس ويطلب دعمها، وهي تتجاوب معه وتبحث بالأساسيات والتفاصيل.

ثانيا: سوريا تقول للعالم أجمع أن محمود عباس الرئيس المنتخب، والذي تتعامل معه الولايات المتحدة الأميركية، جاء إلى دمشق ومن ضمن تطلعاته أن يجتمع مع الفصائل الفدائية كافة، حتى أنه دعا الفصائل إلى المشاركة في حكومة وحدة وطنية.

ثالثا: إن سوريا المتهمة بأنها ترعى الإرهاب، إنما ترعى في الحقيقة سعي السلطة الفلسطينية إلى الوحدة الوطنية. وقد قبلت الولايات المتحدة قبل أسابيع مثل هذه الرعاية من مصر، ومن البديهي أن تقبل هذه الرعاية من سوريا.

رابعا: إن رعاية سوريا للوحدة الوطنية تختلف شكلا ومضمونا عن رعاية مصر لها، فسوريا تعاملت مع الانشقاق عن حركة فتح عام 1983 بزعامة العقيد ابو موسى، وها هو ابو موسى يتواجد في حفل الغداء، ويلتقي مع محمود عباس، ويتصافحان، ويشيع أن هذا اللقاء سيكون بداية لحل المشكلة، إذ سيعمد الفريق المنشق إلى تغيير إسمه “فتح ـ الانتفاضة”، ويتعامل مع الجميع على أنه فصيل فدائي مستقل. وقد قامت سوريا بلفتة تجاه محمود عباس حين نظمت دعوة الغداء ولم تدع إليه ابو موسى، ورد محمود عباس على اللفتة بمثلها، إذ اتصل طالبا أن يكون أبو موسى بين المدعوين. وحدث في بداية اللقاء هذا، ما يمكن اعتباره أهم حدث في الزيارة، إذ قدم عباس إلى الرئيس الأسد “الدكتور سمير الرفاعي” وأبلغه أنه هو مسؤول حركة فتح في سوريا، ورحب به الرئيس ترحيبا حارا. ويعني هذا التقديم أن الخلاف الذي كان قائما بين سوريا وحركة فتح قد انتهى، وأن حركة فتح ستعود لتمارس نشاطها في دمشق، وربما تتسلم بعد فترة وجيزة جل المكاتب التي كانت لها في العاصمة السورية، ومن ضمنها المؤسسة الأهم، مؤسسة رعاية أبناء الشهداء. وجزء أساسي من هذه المكاتب تابع الآن للمنشقين، حيث من المتوقع أن تتنازل حركة فتح للمنشقين عن بعض مكاتبها. وفي هذا الإطار فإن تصريح فاروق القدومي “ابو اللطف” بأنه مكلف بالإشراف على جرد ممتلكات حركة فتح، ليس بعيدا عن هذا الأمر الذي جرى في دمشق. ولا بد أن يطال الأمر في النهاية توحيد الصندوق القومي الفلسطيني، حيث يوجد الآن ما يشبه الصندوقين، صندوق في عمان وآخر في دمشق.

ولكن زيارة فاروق القدومي إلى دمشق تحمل نكهة خاصة تختلف عن تلك النكهة التي لزيارة محمود عباس. أبو اللطف مكلف بالاتصال مع الفصائل الفدائية للبحث في «تفعيل» منظمة التحرير الفلسطينية، تطبيقا لاتفاقات حوار القاهرة، ولذلك فإن استقبال الفصائل الفدائية له كان متلهفا، لأن التطبيق لم يدخل إلى حيز التشاور المباشر منذ أن انتهت الحوارات، حتى ظنت الفصائل كلها أن حركة فتح لم تعد معنية بذلك، وقد جاءت زيارة القدومي إلى دمشق ولقاءاته مع الفصائل لتثبت العكس. ويمكن القول أن زيارة القدومي نجحت في هذا الجانب نجاحا ملحوظا، لولا أنها ووجهت بطرح جديد يستدعي التوقف عنده ولو قليلا. بعض الذين التقى بهم القدومي رفضوا النظرية القائلة بـ«تفعيل» منظمة التحرير، وطالبوا بـ«إعادة بناء» المنظمة، وكان هذا هو البند الأول في وجهة نظرهم. أما البند الثاني فيقول إن «تفعيل» أو «إعادة بناء» منظمة التحرير على قاعدة التقاء الفصائل، واعتبار لقائها هو وحده الهدف المنشود، أمر لم يعد مفيدا ولا مقبولا، إذ لا بد أن تتمثل الشرائح الشعبية الفلسطينية داخل المنظمة جنبا إلى جنب مع الفصائل الفدائية. وقال اصحاب هذا الرأي، هناك تجمعات أساسية للشعب الفلسطيني: في الأردن، وسوريا، ولبنان، وبلدان اوروبا، والأمريكتين، وقد تفاعلت هذه التجمعات مع تداعيات التطورات السياسية بعد اتفاق اوسلو عام 1993، فأنشأت مؤسسات عديدة فاعلة، مؤسسات مجتمع مدني ترفع شعار “حق العودة إلى الديار والوطن”، وأصبح نشاط هذه المنظمات جزءا من المشهد السسياسي الفلسطيني. وطالب أصحاب هذا الرأي بأن تكون «إعادة بناء» منظمة التحرير متضمنة تمثيل هذه القطاعات الشعبية داخل المجلس الوطني الفلسطيني، وعلى قاعدة الانتخاب، وباعتبار أن الانتخابات أمر ممكن من جهة، وهو يرفع مستوى المكانة التمثيلية للمجلس الوطني ، ويطور مطلب حق العودة، ليجعل من المنادين به نوابا منتخبين من الهيئات الشعبية مباشرة. وأكد أصحاب هذا الرأي أن موقفهم هذا لا ينطوي على أية نزعة عدائية تجاه الفصائل، ولكن فصائل منظمة التحرير لم تعد هي المعبر الوحيد عن نشاطات الشعب الفلسطيني. فهناك أولا الفصائل التي نمت خارج إطار منظمة التحرير، وهناك ثانيا الفصائل التي أصبحت موجودة بالإسم فقط، وهناك ثالثا حالة السلطة الفلسطينية التي يفترض بها أنها تعبر عن قوى المجتمع الفلسطيني، وليس عن فصيل الحزب الحاكم فقط «نقابات ـ أكاديميون ـ رجال أعمال ـ مؤسسات المرأة ـ نشطاء المخيمات ـ قادة الأسرى». وهناك أيضا.... القوى المماثلة التي تعبر عن المجتمع الفلسطيني في المهاجر والشتات. وعلى أساس هذه النظرة الجديدة يمكن «إعادة بناء» منظمة التحرير لتمثل شيئا جديدا، ولتكون إضافة فاعلة وليس مجرد تكرار باهت لتجربة مضت، وتغيرت تغيرا نوعيا كل الظروف التي أدت إلى نشوئها.

إن «إعادة بناء» بناء منظمة التحرير، ومناقشة المهمات التي طرأت على المشهد السياسي، وتحليل ومناقشة التغيرات التي طرأت على المشهد الاجتماعي الفلسطيني، تجعل من مهمة فاروق القدومي (والتي سيتابعها سليم الزعنون/ابو الأديب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني) مهمة عميقة الغور، لا يمكن تقليصها إلى مجرد اجتماع ناجح يتم عقده بين أمناء الفصائل الفدائية. والكثيرون يأملون أن يتصدى القدومي والزعنون لهذه المهمة بنجاح، ويكون ذلك إنجازهما الكبير في تطوير مسيرة النضال الفلسطيني، لكي تستطيع أن تتجاوز «الجدار العازل» الذي يبنيه شارون.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)